أنزلت موظفة في أحد المكاتب في مبنى حكومي صورة الرئيس موغابي لنفض الغبار عنها، كما اعتادت أن تفعل كل يوم طوال سنوات، ثم توقفت قليلاً لأنها لا تدري ما إذا كان عليها إعادتها أم لا، فهذه الصورة نراها في كل مكان من المتاجر إلى المكاتب والمصارف.كثيرون منا لم يعرفوا قائداً غيره، فقد قُدّم لنا كأب للأمة، إنه حامينا والزعيم الذي قاد النضال في سبيل الاستقلال وحمانا من الإمبرياليين؛ لذلك لم نتخيل أن ينتهي عهد شخصية مسيطرة كهذة بمهزلة مماثلة.
نُفذ العمل العسكري ضده أمام أعين الجميع، وراح سكان زيمبابوي يحدقون في هواتفهم، فيما كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتناقل صور الآليات العسكرية وهي تسير في هراري، وجاء بعد ذلك الإعلان أن الجيش سيطر على محطات البث الرسمية، لكننا كلنا فكرنا في أن هذه أخبار كاذبة بالتأكيد، ثم ظهر رجلان يرتديان زياً عسكرياً على الشاشات وأكّدا أن الجيش أتى لاعتقال المجرمين المحيطين بموغابي وأنه لا ينفذ انقلاباً.طوال يوم كامل لم تصلنا أي أخبار جديدة، فرحنا نبتكر الميمات على شبكة الإنترنت وبددنا قلقنا بالدعابات، لكننا سرعان ما سئمنا المزاح، كانت وسائل الإعلام الحكومية لسنوات تروّج لصورة رجل لا يُقهر، وها نحن اليوم نشاهد مشدوهين مقدم محطة ZBC الشاب وهو يتفوه بكلمات لم نظن يوماً أننا قد نسمعها على تلفزيون وطني: "طلب الاتحاد الوطني الإفريقي-الجبهة الوطنية من الرئيس موغابي التنحي".لطالما اعتبرت وسائل الإعلام الغربية موغابي قائداً جيداً تحوّل بطريقة ما إلى زعيم سيئ نحو منتصف عهده، وخصوصاً عندما بدأ بالسيطرة على الأراضي التي يملكها البيض، وهكذا لم يره العالم حاكماً شريراً إلا بعد استيلائه على تلك الأراضي.في تسعينيات القرن الماضي، طرد موغابي مسؤولي الحزب الذين عارضوا خططه لإنشاء دولة حزب واحد وتنصيب نفسه قائداً مدى الحياة، ثم عمد إلى سحق تظاهرات الاتحادات بوحشية، فيما كان الاقتصاد ينهار.أما اليوم، فيجد جيل عاش في عهد قائد واحد نفسه مضطراً إلى أن يستجمع جرأته ويبني الآمال. تُصوَّر زيمبابوي غالباً كدولة موز إفريقية تقليدية، صحيح أن هذا البلد مرّ بمآسٍ كبيرة، إلا أننا نبقى أمة فتية ما زالت تضج بإمكانات لم تُستغل، شعرنا بالراحة، غير أننا لم نتخلَّ عن حذرنا، يشكّل التغيير فرصة للبدء من جديد، مع أننا لسنا واثقين من ماهية هذا التغيير. ورغم كل سنوات التقهقر لا تزال بنية زيمبابوي التحتية، من الطرقات إلى وسائل الاتصال، سليمة عموماً، ومع أن المصارف تفتقر إلى المال، يبقى قطاعنا المالي عصرياً. قبل أن ينزل سكان زيمبابوي إلى الشارع مطالبين باستقالة موغابي، قصدتُ المكان الذي بدأ فيه هذا الرئيس مشواره، يقع مبنى "ستودارت هول" في مباري، أحد أحياء هراري القديمة، لا تلمح في هذا المكان ما يوحي أنه يحفل بالتاريخ، فقد سُرقت المصابيح وعُلّقت في المدخل لافتة تحدد مواعيد بدء خدمة "الشفاء الديني" التالية.لا ترى ما يُظهر أن في هذا المكان بدأ موغابي مسيرته السياسية قبل نحو 60 سنة عندما أشعل خطاب ناري أدلى به تظاهرات دامت أسابيع، عاد موغابي مراراً إلى ستودارت هول، لكن تردده على هذا المكان كان ليرأس مراسم دفن رفاق الحرب فحسب، فلا تُستخدم هذه القاعة إلا لمناسبات مماثلة، وفي مقبرة الأبطال الوطنية التي تضم رفات أبطال النضال، ينتصب تمثال لموغابي مثبت إلى جدار عالٍ، قدّم كثيرون ممن يرقدون هنا تضحيات أكبر، إلا أن ذكرى موغابي وحده خُلّدت بالبرونز، فتراه يقف بصدر مفتوح والعلم يرفرف وراءه.خلال إحدى الزيارات، نظر كينغستون كازامبارا، المشرف على المكان، إلى تلك القطعة الضخمة من الفن الكوري الشمالي وقال بصوت عالٍ: "هذا بالتأكيد فخامة الرفيق روبرت غابريل موغابي، الذي يقود بنصر، وعظمة، وشجاعة شعبه نحو مستقبل جديد".ولكن علينا اليوم أن نتخيل مستقبلاً جديداً من دونه ومن دون صور ذلك الرجل الضخم التي تراقب كل خطواتنا.* رنغا مبيري* «الغارديان»
مقالات
زيمبابوي قد تزدهر بعد موغابي
22-11-2017