خرافة تجديد الخطاب
قالت المذيعة: «كيف سيعمل تياركم على تجديد خطابه؟».«تمطع» الضيف، وارتدّ بالكرسي قليلاً، ثم قال كمن يتفوّه بحكمة كونية: «علينا أن نناقش جيداً ما يقوله أعضاؤنا في وسائل الإعلام... البعض لا يملك الحكمة الكافية لتحديد ما يقال وما لا يقال... يجب أن يعطي خطابنا الأمل للناس ليتمكنوا من مواجهة واقعهم الصعب».في الثقافة العربية، نشهد من حين إلى آخر فوراناً إعلامياً متكرراً يعلو كموجة عظيمة ثم ينحسر عن زبد، وعنوان هذا الفوران هو: «تجديد الخطاب الـ...»، ويمكن للقارئ الكريم أن يضع مكان النقاط ما شاء من المجالات التي سمعنا عن تجديد خطابها، فمن تجديد الخطاب السياسي، إلى تجديد الخطاب الموجه للمرأة، كذلك تجديد الخطاب الإعلامي نفسه، وأخيراً تجديد الخطاب الديني. تحوّلت الصيغة السابقة إلى ما يشبه صرعات الموضة في عالم الأزياء.
لكن ما نوع التجديد الذي يبشر به «المجددون العرب المعاصرون»؟ في الحوار القصير السابق يتساوى «التجديد» مع «التمويه»، بحيث يصبح تجديد الخطاب هو تغيير اقتصاد الكلام وطريقته من دون المساس بالأسس الفكرية أو الفلسفية التي ينهض عليها الكلام. وللمشكلة جذران؛ الأول هو فهمنا السطحي لكلمة «خطاب» وحصره في «الكلام الذي يزيد عن الجملة المفردة» بعيداً عن الأصول الفكرية والثقافية التي يقوم عليها هذا الكلام. أما الأمر الثاني فيتّصل بسياسات الطلاء التي لا تسعى إلى تغيير جوهر المشكلة، بل إلى تجديد مظهرها أو تمويهه فقط، كي يبدو للناظر من بعيد أن المشكلة قد اختفت.ولأن مفهوم «الخطاب» في موجات التجديد العربي الموسمية يتساوى غالباً مع مفهوم «الكلام»، نجد أن التجديد لدينا يعني ببساطة أن يظهر المختص مزيداً من الاهتمام بأشياء كان يؤخذ عليه إهمالها، أو أن يخفي اهتمامه بأشياء وقضايا أخرى إرضاءً للرأي العام أو لمؤسسات التقييم الدولية. اللعبة إذن هي لعبة إظهار وإخفار ضمن المرحلة الأخيرة من مراحل الخطاب وهي مرحلة «الكلام». تصرعنا الآن موجة «تجديد الخطاب الديني»، ولأننا لا نعرف من الخطاب سوى الكلام تركنا مهمة تجديده لنفس الأشخاص والمؤسسات التي قامت على أمر الخطاب القديم، أي أننا نطلب من المشكلة نفسها أن تخترع لنا الحل. تجديد الخطاب الديني، كتجديد أي خطاب، يتطلّب عودة جريئة إلى الأسس الفكرية التي يقوم عليها الخطاب سبب الأزمة، وهو أمر لن يقوم به من تربى وشاب على الخطاب القديم. تجديد الخطاب الديني يعني في العمق عملية نقد وإحلال لكثير من الأفكار التي تربينا عليها بوصفها بداهات. ينحصر هذا التجديد طبقاً للفكر الإعلامي العربي في السكوت عن الأفكار الظلامية الداعمة للتطرف والمذهبية البغيضة، لا مناقشتها وهدمها من الأساس، كما يتضمّن تجديدنا الموهوم إظهار البشاشة واللطف في الأداء «الكلامي» من دون التعرّض للأفكار الكامنة التي يضمرها المتكلم، أو مناقشة المناهج والكتب التي تحضّ على العنف وقمع المرأة وكره المختلف في الدين أو المذهب، لذلك سنجد مؤسسات دينية عريقة تدّعي أنها تسعى إلى تجديد الخطاب الديني هي نفسها من يطالب بمنع الكتب وسجن المفكرين وتكفير دول بأكملها، لأنها اختارت طريقاً مختلفاً في تفسير النصوص الدينية.وهكذا تكون النتيجة هي تجديد الأقنعة التي يرتديها رجال الدين كي نبيِّض أوجهنا أمام العالم بصورة زائفة، وليس تجديداً حقيقياً للخطاب بدءاً من أسسه الفكرية.