الإعلام لم يُسقط مبارك
نحن مع الدولة المصرية بكل تأكيد في خططها لصيانة أمنها وأمننا جميعاً، ونحن نعرف أيضاً أن الأمن القومي له اعتبارات ومقتضيات يجب الوفاء بها، لكننا نعرف كذلك أن بمقدورنا أن نوفر عوامل أمننا وأن نحسن صورتنا الدولية في مجال حرية الرأي والتعبير في الوقت ذاته.
يعتقد قطاع في النخبة المصرية أن الدرجة المحسوسة من التنوع والديناميكية، التي ميزت الأداء الإعلامي، في السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك، وهامش حرية الرأي الذي اتسع نسبياً آنذاك، تسببا في إطاحة النظام، وذهبا بالرئيس الأسبق إلى السجن.إن ذلك الاعتقاد غير صحيح بكل تأكيد، ليس لأن نظام مبارك لم يحرر قطاع الإعلام تحريراً كاملاً أبداً، وظل قادراً على التحكم المركزي في درجة الانفتاح والتعدد والتنوع، وكانت مصر خلال حكمه تُصنف باعتبارها دولة غير حرة إعلامياً، فقط، ولكن أيضاً لأن الهوامش النسبية التي تركها مبارك متاحة، وانعكس تأثيرها في الجدل والتدافع اللذين ميزا برامج "التوك شو" في تلك الفترة، وظهرا في أداء الصحافة المطبوعة الخاصة تحديداً، كانت هي السبب الذي أطال عمر هذا النظام، وزوده بأسباب الصمود لفترة أطول.لم يكن بوسع نظام مبارك، بعدما فقد معظم عوامل الدعم، باستثناء المساندة الأمنية، أن يستمر عقداً ثالثاً في السلطة من دون تلك الهوامش المحسوسة التي استفاد منها قطاع الإعلام، والتي عملت كوسائل "تنفيس" عن الغضب، وفرغت بعض المشاعر الحادة، من خلال أدوار المساءلة والمحاسبة والانتقاد عبر صحافة خاصة نشطة، وبرامج فضائية رائجة.
ثمة اعتقاد غير صحيح أيضاً لدى بعض مراكز القرار المصرية، إذ ترى أن الدولة قادرة على التحكم في مصدر الرسائل الإعلامية التي تصل إلى الجمهور.وهي باعتقادها هذا ترى أن بإمكانها أن "تُعقّم" المحتوى المقدم عبر وسائل الإعلام، ليكون خالياً من أي نزعات أو توجهات تأجيجية أو تثويرية، وليبتعد عن تصدير البلبلة، أو زعزعة الثقة بالسلطات، أو إثارة موضوعات جدلية، أو فتح ملفات شائكة، بما يضمن هدوءاً واستقراراً مطلوبين، لإنجاز خطة التنمية والدفاع، والخروج من الأزمات التي يُراد من خلال النفخ فيها تقويض الدولة.إن هذا الاعتقاد أيضاً غير صحيح بكل تأكيد، ليس لأن "تعقيم" المحتوى الإعلامي المُقدم عبر أي منظومة إعلامية في بلد مثل مصر عمل يؤدي إلى انصراف الجمهور عنها، والبحث عن منظومة بديلة، تقدم محتوى أكثر تلبية للحاجات المتصاعدة فقط، ولكن أيضاً لأن فكرة التحكم في مصادر الرسائل الإعلامية انتهت تقريباً، بالنظر إلى التطورات الاتصالية الراهنة، إلا لو كان بوسعنا أن نبني نظاماً سلطوياً شبيهاً بذلك القائم في كوريا الشمالية.بعض أوساط الحكم المصرية تعتقد أيضاً أن الحريات المطلوبة في مجال الإعلام مسألة تخص الإعلاميين والصحافيين وحدهم.إن هذا الفهم الخطأ لا يقتصر على أوساط الحكم وحدها، وحتى نتوخى الموضوعية، فإن قطاعاً من الإعلاميين والصحافيين أنفسهم يعتقد مثل هذا الاعتقاد الخطأ، كما تفهم قطاعات من النخبة والجمهور أن المكاسب الدستورية والقانونية والحقوقية التي يحصل عليها القطاع إنما تُستخدم لمنفعة العاملين فيه.حينما تنص دساتير الدول المتقدمة على وسائل لحماية حرية الكلام، وعندما ترسي المواثيق والعهود العالمية البنود التي تصون حرية الرأي والتعبير، وحينما تسهر النظم الرشيدة على الدفاع عن حق وسائل الإعلام والصحافيين في مناقشة القضايا محل الاهتمام بحرية وانفتاح، فإنما تفعل ذلك لحماية مصالح المواطنين والدولة في المقام الأول لا الصحافيين والإعلاميين فقط.إن حرية الرأي والتعبير تخص المواطنين جميعاً، والمؤسسات، والكيانات المختلفة التي تنطوي عليها الدولة. والحق في إصدار وسائل الإعلام، هو حق لأصحاب المصالح، وليس للإعلاميين والصحافيين وحدهم، والحق في تداول المعلومات يخص الجمهور بأكثر مما يخص وسائل الإعلام، وإن كانت تلك الأخيرة تنوب عن الجمهور في معظم الأوقات حين تحصل على المعلومات التي تقع في صلب اهتمامه، وتنقلها إليه.ثمة إشكال آخر نلمحه في الفهم السائد في أوساط الحكم المصرية للإعلام وطبيعته ودوره وتأثيره، وهو الإشكال المتعلق بالتقييم الرسمي للرؤية الدولية لحالة الإعلام الداخلية.وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن الحكومة لا ترى أهمية للعمل على تحسين صورة أوضاع الإعلام في مصر، لتكون أكثر قبولاً في الخارج.لم أجد أي تعليق موضوعي صادر عن طرف من أطراف الحكم في القاهرة على الطريقة التي تتعاطى بها الدولة في ملف الحريات وأثرها في الصورة الذهنية للبلد في العالم الخارجي، وكل ما ظهر في هذا الصدد يتعلق بأقوال تندرج ضمن تصنيف "الرطانة" والعبارات الإنشائية، والتي تقال على سبيل تسديد الخانات، وقد يتم إيرادها في التقارير الدولية والقصص الصحافية في الصحافة العالمية، لكن أحداً لا يصدقها أو يأخذها على محمل الجد.ما يمكن أن يكون قد استقر في وعي المتابعين لهذا الملف أن الدولة تعتقد أنها مستهدفة ومحاطة بالكثير من الأزمات، وأن الإعلام يؤدي دوراً سلبياً في هذا الصدد، لأنه، بقصد أو عن غير قصد، يخدم بعض القوى المناوئة أحياناً، عبر إثارة البلبلة، وتقويض الروح المعنوية للجمهور والقوات النظامية، وإعطاء الانطباعات السلبية عن الأداء العمومي، بما يغري باستهدافه، ويخدم المخططات المعادية.ولأن الدولة تفهم ذلك، فإنها تريد تنظيماً للقطاع يحد من تلك "الانفلاتات"، ووفق ما يظهر في سلوك الحُكم وخطابه، فإن الدولة ترى، في هذا الصدد، أنه "إذا اتخذ هذا التنظيم طابعاً سلطوياً أو خشناً، أو فهمه العالم باعتباره اعتداء على حرية الصحافة والإعلام، وتقييداً للحق في التعبير عن الرأي، فلا بأس أبداً، لأن تلك السياسات تحمي الدولة وتمنع سقوطها، وأن تكون صورتنا في الخارج سيئة أفضل من أن نكون دولة فاشلة".ولذلك، فإن الدولة لا تحفل كثيراً بأنباء تراجعها في مؤشرات حرية الصحافة العالمية، أو بالانتقادات التي توجه لها من المنابر الحقوقية الدولية.نحن مع الدولة المصرية بكل تأكيد في خططها لصيانة أمنها وأمننا جميعاً، ونحن نعرف أيضاً أن الأمن القومي له اعتبارات ومقتضيات يجب الوفاء بها، لكننا نعرف كذلك أن بمقدورنا أن نوفر عوامل أمننا وأن نحسن صورتنا الدولية في مجال حرية الرأي والتعبير في الوقت ذاته، عبر سياسات حاذقة تتسق مع التزاماتنا الحقوقية واعتباراتنا الأمنية في آن واحد.* كاتب مصري
ثمة اعتقاد غير صحيح يرى أن الدولة قادرة على التحكم في مصدر الرسائل الإعلامية التي تصل إلى الجمهور
الحكومة لا ترى أهمية للعمل على تحسين صورة أوضاع الإعلام في مصر لتكون أكثر قبولاً في الخارج
الحكومة لا ترى أهمية للعمل على تحسين صورة أوضاع الإعلام في مصر لتكون أكثر قبولاً في الخارج