الفساد سرطان لا يأمن منه مجتمع، فهو الذي رفع حصيلة الوفيات الناجمة عن زلزال إيران الأخير، بسبب مساكن شُيدت بمعايير دون المستوى قبل عشر سنوات، وأصاب أيضا البحرية الأميركية التي تحقق الآن مع أكثر من 60 قائدا برتبة فريق أول بحري ومئات الضباط الآخرين بتهمتيّ التدليس والرشوة، كما أطاح الفساد بحكومات لا حصر لها، من إدارة رئيسة البرازيل ديلما روسيف العام الماضي إلى حكومة تشيانغ كاي شيك القومية في جمهورية الصين.

الواقع أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو دارس ذكي للتاريخ، يدرك تمام الإدراك القدرة التدميرية المحتملة للفساد، وقد واجه الظاهرة مباشرة ودون مواربة، لكن مع استمرار عملية تحديث الاقتصاد الصيني، لا يزال هناك الكثير من العمل الواجب إنجازه.

Ad

قبل الإصلاحات الاقتصادية التي جرت في ثمانينيات القرن الماضي، كان الفساد في الصين قليلا نسبيا، لأن الحجم المحدود للسوق قيد فرص سوء الاستغلال الإداري، لكن مع تعمق السوق، سهلت عوامل مثل نقص التشريعات وضعف الإجراءات الاحترازية من قبل المؤسسات تزايد الفساد وسوء الاستغلال الإداري بصورة فجة، ولكن في الوقت ذاته ومع ارتفاع مستويات الدخل والتعليم، أصبح المواطنون أقل تسامحا مع مثل هذه الممارسات، لتتزايد مطالبهم بضرورة توصيل المنافع والخدمات العامة الأساسية بشكل شفاف وقانوني، من البنية التحتية إلى حماية البيئة، فضلا عن المطالبة بتوزيع عادل للدخل والفرص.

واعترافا منه بقدرة الفساد على تقويض شرعية الحزب الشيوعي الصيني وسلطة الدولة الصينية، أطلق شي حملة لمكافحة الفساد غير مسبوقة في نطاقها ومداها وعمقها، فعلى مدار السنوات الخمس المنصرمة، أسفرت هذه الحملة عن فصل ومعاقبة ومجازاة ما لا يقل عن 440 مسؤولا بالحكومات الإقليمية، و8900 على مستوى المجالس المحلية، و63 ألفا على مستوى الريف، و278 ألفا على مستوى القرى. كما أحيل نحو 58 ألف فرد لمزيد من التحقيقات الجنائية. وبالجملة طالت هذه الحملة 1.7% من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني البالغ عددهم 89 مليونا، ومنهم "النمور". (قادة الحزب)، و"الذباب" (صغار المسؤولين).

لكن المبادرة لم تنته بعد، فلا يزال أمامها الكثير، وفي المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد الشهر الماضي، أقر الحزب إنشاء لجنة إشراف وطنية لدعم وتحديث حملة مكافحة الفساد كي تتجاوز أعضاء الحزب لتشمل كل المسؤولين الذين يمارسون سلطة عامة على كل المستويات، لكن بناء هيئات قوية ومتينة لمكافحة الفساد لن يكون بالأمر السهل، نظرا لقدرة المسؤولين الفاسدين المترسخة على السيطرة على مثل هذه الهيئات.

ولو نظرنا في نوعية الفساد في الاقتصادات المتقدمة التي كشفتها الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2008، لوجدنا أن المصالح الشخصية تكفل سن القوانين واللوائح التي ترسخ مكاسب أصحاب هذه المصالح، ففي الولايات المتحدة مثلا، يشجع قرار مواطنين متحدين المثير للجدال الذي أصدرته المحكمة العليا عام 2010 مثل هذه النتائج بصورة مؤثرة، إذ يسمح هذا القرار للمؤسسات والنقابات بإنفاق مبالغ غير محدودة بأسماء مستعارة للتأثير في انتخاب أو خسارة مرشحين معينين. وكنتيجة لهذه القرار، وصل حجم الإنفاق الخارجي في دورة 2016 الانتخابية نحو 1.4 مليار دولار، مقارنة بأقل من 100 مليون دولار في دورة 2006.

لذا فالفساد ليس فشلا من قبل الدولة فحسب، إنما يرتبط كذلك ارتباطا وثيقا بفشل السوق والأنظمة القضائية والأيديولوجية، فحيثما أمكن استخدام السلطة الاقتصادية والاجتماعية المتركزة التي تميل الأسواق المالية واقتصادات الشبكات إلى خلقها للسيطرة على السلطة السياسية، يصير من المستحيل عمليا وضع نظام فعال من الضوابط والتوازنات الرقابية.

هنا نجد ديفيد جريبر عالم الأنثروبولوجيا في كلية لندن للاقتصاد يؤطر المشكلة من منظور كيفية تناول الفاعلين السياسيين لقضية البيروقراطية، وكما يوضح جريبر، فإن أنصار اليمين السياسي يدينون البيروقراطية المفرطة، لكن حلهم لتقليص دور الدولة والسماح لقوى السوق بأن تتولى دورها هو ما يغذي بالفعل تفشي البيروقراطية على نحو مزعج ومرهق.

ويلخص جريبر هذه القضية فيما يسميه "بقانون التحرر الحديدي"، حيث يقول إن "أي إصلاح للسوق، وأي مبادرة حكومية تهدف إلى تقليص الروتين وتشجيع قوى السوق ستسفر في النهاية عن زيادة العدد الكلي للقوانين واللوائح، والكم الكلي للمعاملات الورقية، والعدد الكلي للبيروقراطيين الذين تعينهم الحكومة". بمعنى آخر يمكن للأسواق أن تؤدي دورها بفعالية إذا كان هناك توجيه من دولة قوية شريفة عادلة، مع إجراءات فعالة للحماية من سوء الاستغلال والفساد من قِبل كلٍ من الفاعلين في السوق الذين يقدمون الرشا، والمسؤولين الذين يقبلونها.

لكن ماذا يعني هذا بالنسبة للصين؟ بداية تحتاج الدولة لتطوير آليات حديثة لحل المنازعات المدنية الناشئة عن حقوق الملكية غير الواضحة، أو القواعد الغامضة لمعاملات السوق. هنا يمكن للصين أن تستلهم نظام القانون العام الغربي، الذي يحسم القضايا على أساس سوابق قائمة، أو أن تجرب استخدام المحاكم الإدارية لحل النزاعات بين الأفراد والبيروقراطية، كذلك تشكل لجنة هونغ كونغ المستقلة لمكافحة الفساد نموذجا مفيدا في هذا الصدد.

في الوقت ذاته يتحتم على الصين أن تقلل بواعث الفساد برفع أجور الموظفين الحكوميين على كل المستويات، والواقع أن مرتبات المسؤولين يجري تحديدها عادة بما يتوافق مع المستوى العام للدخل القومي، لكن الأجر الناتج ليس مرتفعا بدرجة كافية لتقليل الإغراء الذي يواجهه المسؤولون لاستغلال سلطاتهم الكبيرة للتربح في قطاعات رئيسة مثل الطاقة، والمالية، والعقارات.

في المقابل، نجد أن المسؤولين في الاقتصادات المتقدمة لا يحصلون على أجور أعلى كثيرا فحسب، لكنهم أيضا يخضعون لقيود على ما يمكنهم فعله ومتى يمكن أن يفعلوه، بعد تركهم لمناصبهم. أما في الصين فيستطيع المسؤولون تقديم الخدمات خلال شغلهم لمناصبهم مقابل الحصول على وظائف أعلى أجرا أو منافع بعد التقاعد.

إن مواصلة محاسبة الفاسدين ومنع المصالح الشخصية من السيطرة على الهيئات- وهي عملية تتضمن ترسيخ الأخلاقيات داخل المؤسسات البيروقراطية التي تتزايد فيها احتمالات للفساد- لن تكون عملا سهلا، بل قد تشكل التحدي الأصعب الذي يواجهه الرئيس شي في تحقيق "الحلم الصيني" كما يسميه. لكن في ضوء ما يجري الآن على أرض الواقع، يبدو أن أجندة الصين لمحاربة الفساد تسير على الطريق الصحيح.

* أندرو شنغ و شياو غنغ

* زميل متميز لدى معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام، وشياو غنغ رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ في جامعة هونغ كونغ.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»