مجدي توفيق: الثقافة العربية لم تحلّ مشكلات الحداثة

• أصدر أخيراً «الأدب ونصوص الحياة»

نشر في 01-12-2017
آخر تحديث 01-12-2017 | 00:00
د. مجدي توفيق
د. مجدي توفيق
نصوص الأدب تكوينات جمالية لا تتشكّل من عدم، بل تنشأ عن اللغة، واللغةُ ليست أصواتاً فحسب، بل هي زحام من المعاني، وتلك المعاني مستمدة من الحياة، هذا ما يؤكده أستاذ النقد الأدبي الدكتور مجدي توفيق في كتابه الصادر أخيرا «الأدب ونصوص الحياة» جدلية النص الأدبي، مؤكداً أن الصلة بين الأدب والحياة وثيقة جداً، ومعتبراً أن الأدب يمنح تصوراً جمالياً لحوادث التاريخ. حول كتابه وأعماله ونصوص الحياة كان هذا الحوار.
كانت جدلية النص الأدبي محور كتابتك الأخيرة، فما مدى ارتباط النصوص بالحياة؟

النص الأدبي تكوين جمالي مستقل، ولكنه لا يتشكّل من عدم، بل ينشأ عن اللغة، وهي ليست أصواتاً فحسب، بل زحام من المعاني مستمدة من الحياة. فبمقدار ما يعالج الأديب اللغة كأنه يعالج كائنات تامة التكوين ومستقلة، ولكنها في الحقيقة تحمل الحياة في تضاعيفها، تخرج منها، وتتجه، كذلك، إليها، وهذا كله معناه أن الحياة مادة الأدب بقدر ما تسكن الحياة في الكلمات. ولا يعالج الأدب الحياة بوصفها موضوعاً وصفيّاً كموضوعات الإنشاء، بل يعالجها بوصفها موضوعاً للتأويل، أو البحث الدؤوب عن المعنى، من جهة، وبوصفها، كذلك، موضوعاً جمالياً، في الوقت نفسه، من ثمَّ فإن الصلة بين الأدب والحياة شديدة الوثاقة والحيوية.

الوعي الذاتي

إلى أي مدى يؤثر الوعي الذاتي في الناقد؟

لكل ناقد وعيه الذاتي الذي يخصه وحده، ويبنيه بجهده وحده، وهو يبنيه من معطيات ثقافته، وقراءاته، وخبراته، وصور تدريبه، وتُبَلْوِرُ هذه الخبرات في ثقافة الناقد مبادئ جمالية تَرْسُخ في ذهنه. أضرب هنا مثلين: الأول يخص الناقد الشاعر أمجد ريان الذي امتلك وعياً جماليّاً سبعينيّاً، أعني أنه يرجع إلى جماليات الشعر الذي ظهر في مصر في عقد السبعينيات، وكانت جماليات تحفل بالعمق، وطاقات الرمز في لغة الشعر، وتصل بها إلى مشارف الغموض أحياناً، ومع هذا فإنه فتح أبوابَ وعيه على التجربة الشعرية المصرية في التسعينيات، ولم يرده عنها اشتمالها على جمالياتٍ مخالفةٍ لما ألفه، وشرع يبذل جُهداً كبيراً في فهمه، وشرحه، وتقديم شعرائه، ومناقشة دواوينه. ورافق جهدَه هذا تطوّر ملحوظ لقصيدته، لا لتقلد الشعر السبعيني، وإنما لتستوعبَ أفكاراً جماليةً أخرى. ونستطيع أن نوسِّع المثل فنقول إن جمهرة الشعراء السبعينيين انفتحت على التجربة الشعرية اللاحقة، وطورت نفسها بفضل هذا الانفتاح من دون أن يكون تطوُّرُها تقليداً، والمثل الثاني الذي أختاره هو الناقد الكبير محمد عبد المطلب، وقد ذكر غير مرة أن ذوقه الشعري قد كونه البحث الأكاديمي، ووجهه نحو الشعر العربي الكلاسيكي، من تاريخه الأول قبل الإسلام، وصولاً إلى العصر الحديث. مع هذا فإن ذوقه الشعري لم يمنعه بأية صورةٍ من الصور من أن يُقْبِلَ إقبالاً واسعاً على شعر الحداثة في مصر، بكل ما ينطوي عليه من جمالياتٍ مخالفةٍ لمألوف الشعر القديم، بل أصبح محمد عبد المطلب علماً على الاهتمام النقديِّ بشعر الحداثة، وما كان له أن يكون كذلك لولا أن وعيه النقديَّ كان قادراً على التفاعل الحي الحر مع تجاربَ جماليةٍ مختلفةٍ عما استقر عليه ذوقه.

ما الفارق بين الممارسة النقدية والمنهج النقدي في التعامل مع النصوص؟

المنهج خطوات محددة مسبقاً، ينبغي على الناقد أن يخطوها بدقة، وهي مبنية على تصوراتٍ مسبقة بمعنى أن الناقد يُكَوِّنُها حسب قناعاته بمعزلٍ عن النص الذي يتناوله بين يديه، ويبنيه على تصوره لمجموع النصوص عموماً لا لنصٍّ واحدٍ فقط. أما الممارسة النقدية فيلتقي فيها الناقد النص الذي يستجيب لخطواته المنهجية، وفي الوقت نفسه يشتمل على أبعاد تخصُّه لم يفترضها المنهجُ سابقاً. ولهذا يستطيع النص، إذا أصغى إليه الأديب إصغاءً جيِّداً، أن يطرح على الناقد أشياء كثيرة خارج حدود تصوره المنهجي، وتستطيع الممارسة أن تُعَدِّلَ تصورات الناقد، وتصحح منهجه، ويحسن على الناقد الحصيف أن تكون ممارسته مرنةً حرة، لا يخنقها المنهج، حتى يتعلم من النص، وينبغي ألا يسرف في المرونة حتى تخلو ممارسته من المنهجية فتغدو عشوائية لا قيمة لها، وهذا جدلٌ دقيق يحدد كفاءة الممارسة النقدية. وكي تحقق الممارسة ثمارها النظرية فإن الناقد عليه أن يستخلصَ من ممارسته مجموعة الحقائق التي يلهمه بها النص، ثم يتأملها نظريّاً، وهذا التأمل من شأنه أن يعدِّل المفاهيم، ويبني النظريات النقدية الجديدة الأقدر على كشف حقائق النصوص، والتي لا تفرض قسراً على النصوص.

الحياد النقدي

تثير في كتابك قضية حياد الناقد الأدبي فمتى يتخلى الناقد عن حياده ويتبنى رؤية محددة؟

الحياد مشكلة عسيرة، ويكاد يكون تحقيقه أشد الأمور صعوبة في العمل العلمي الإنساني. كيف يكون الحياد ممكناً ونحن نواجه داخل الأدب الحياة التي فيها اختياراتنا وانحيازاتنا كلها؟ ونحن نعرف جميعاً أن اختيار النص الأدبي الذي يحظى بعناية الناقد هو في ذاته انحياز ملحوظ. ومن المؤكد أن هذا الاختيار يَصْدُر عن رؤيةٍ ما يحملها الناقد في وعيه. ولكنَّ الناقد مدرَّب، أو ينبغي أن يكون مدرَّباً، على أن يدفع بانحيازاته بعيداً كي لا تؤثر في فهمه النص الأدبي، فالأخير قد ينتهي بالناقد إلى تصوراتٍ مخالفة لما ينحاز إليه، ولا شك في أن الناقد بوصفه إنساناً له الحق كله في أن يُظْهِرَ موقفه الحقيقي مما يراه غير مقبول. ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما كان يَعْرِضُ للناقد الاشتراكي حين يجد النص منحازاً إلى رؤية سياسية أو أيديولوجية مخالفة لرؤيته، حينئذٍ نأمل ألا يحاكم الناقد النص. يكفي أن يعبِّر عن نفسه برفق، والأمثلة كثيرة في هذا المجال. وعلى أية حال إذا خرج الناقد من التحليل الجمالي للنص إلى إدراك رؤيته، فإن بيانه لموقفه سيكون جزءاً من التأمُّل للنتائج التي يضعها النص بين يدي الناقد، وحينئذٍ لن يظل الأخير محايداً.

الواقع الثقافي

كيف ترى الواقع الثقافي العربي عموماً والمصري خصوصاً؟

كان من المفروض أن تكون ثورة يناير في مصر باعثاً على إشعال ثورة ثقافية وفكرية وجمالية جديدة، ولكنَّ هذا لم يحدث. وأعتقد أن ثورتَيْن في زمنٍ قصيرٍ أحدثتا نوعاً من الإجهاد بأكثر مما أحدثتا رغبةً ثورية قوية. فوق هذا، فإن الثقافة العربية بأكملها، من الخليج إلى المحيط، لم تحل بعدُ مشكلات الحداثة التي تواجهها، وأغلب ظني أن الثورات لم تقدِّم حلولاً بقدر ما قدَّمَت ارتباكاتٍ عميقةً، فقد دعت الثورات إلى الحرية من دون أن تبلور في وعي الناس نموذجاً للحرية واضحاً على كثرة مفاهيم الحرية ونماذجها في الفكر الإنساني. ودعت كذلك إلى العدالة الاجتماعية من دون أن تبلور تصوراً واضحاً للعدالة المنشودة، فهل هي عدالة عمر الذي يساوي بين الناس في العطاء، أو هي عدالة عثمان الذي يرى ضرورة التفاوت بين الناس؟ ولكل وجاهته ومنطقه، وأستطيع أن أستعرض مفاهيم كثيرة على هذا النحو، وربما كان تعليق الأسئلة الحرجة وسيلةً لجمع الاتجاهات المتضادة معاً في حشودٍ واحدة. ولكن ثمن السعي إلى الحشد باهظ، لأن أمتنا العربية لم تعد تملك وقتاً كافياً لتضيعه في غفلةٍ عن الأسئلة الحرجة الجادة. آن أوان أن تندفع ثقافتنا العربية نحو طرح الحلول الواضحة، والإجابات القاطعة، حتى تتمكن من أن تسير نحو التقدم بخطواتٍ راسخةٍ قوية محددة، وهذا ما أشتاق إليه شوقاً عظيماً.

ناقد بدرجة رئيس تحرير

يتمتع أستاذ النقد الأدبي الحاصل على دكتوراه في الدراسات الأدبية من جامعة عين شمس مجدي توفيق بحس صحافي، إذ تولّى رئاسة تحرير سلسلة «كتابات نقدية» التي تصدرها «الهيئة العامة لقصور الثقافة» نحو سبع سنوات، كذلك نال جائزة باشراحيل للنقد الأدبي في عام 2004، بالإضافة إلى عدد كبير من شهادات التقدير من قصور الثقافة والمؤتمر العام لأدباء مصر، وله عدد كبير من المؤلفات والدراسات النقدية والمقالات في الدوريات الأدبية المختلفة، من بينها: «مفهوم الإبداع الفني في النقد العربي القديم، والتراث المصنوع: دراسة لآليات تأويل التراث في الأدب المعاصر في مصر، ومدخل إلى علم القراءة الأدبية، ومفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان، والمعرفة التاريخية للنقد العربي القديم، وكيف يحكي النقاد؟: السرد النقدي وقراءة النقد الأدبي بوصفِهِ سرداً».

اللغة زحام من المعاني وتحمل الحياة في تضاعيفها
back to top