أحمد البشر
نموذج كويتي متميز بثقافة واسعة ومتواضعة، كانت مكتبته تحتوي على آلاف المجلدات في خمسينيات القرن الماضي.أقدمه، بما تسعفني به الذاكرة، في هذه السطور، لمن يعيشون على ثقافة كبسة زر "الإنترنت"، ليقفوا على حياة إنسان كان يعيش بعيداً عن بهرجة الأضواء المختنقة بالزيف، كما في الصالونات الأدبية هذه الأيام.لم يكن أحمد البشر يعير التفاتة للثقافة القشرية، أو أن يكون موضع اهتمام الصحافة، ولو أراد -والله- لكان من أكثر الذين من الممكن أن يشار إليهم بالبنان عن جدارة واقتدار دون زيف أو أراجيف أو تظاهر فارغ لملء فراغات الساحة الثقافية بمساحيق تزيدها قبحاً على قبحها، مثلما حدث في معرض الكتاب الأخير في الكويت!
• كنت ألتقيه في أوائل الستينيات عند بداية نشوء نشاط الحركة الإعلامية والثقافية والفنية في الكويت، وغالباً ما يكون بصحبة حمد الرجيب، وأحمد العدواني، وعبدالرزاق البصير، فمن خلال اصطحابي للبصير كانت تتاح لي فرص الالتقاء به، والتحاور معه أحياناً، وكانت تبهرني قدرته على اللوذعيات الساخرة، حينما يعلّق على الكثير مما يجري من أحداث!وكلما حاولت أن أجري معه حواراً للإذاعة، أو أنشر بعض أفكاره في الجريدة التي كنت أكتب فيها، كان يرفض بشكل مقنع، ما يجعلني، وأنا الذي أسعى إلى إقناعه، أن أحترم وجهة نظره!***•زار الكويت أنيس منصور في الستينيات، وحرصت أن أجمع بينه وبين أحمد البشر، وبالفعل تم اللقاء في بيته، حيث الكتب المتراصة على امتداد حوائط الديوانية، وكانت الجلسة على الأرض، حيث وجد أنيس صعوبة في الجلوس بدون كرسي، فقال له البشر: - يا أستاذ أنيس، سقراط كان يجالس تلامذته على الأرض وبين جدران المعابد! - "بدهشة"... من أين لك هذه المعلومة عن سقراط؟!- "بعد صمت"... أتستكثر عليَّ يا أستاذ معلومة عن رجلٍ قدح للبشرية زناد الفكر لتفكر، وترك لها تلاميذ فلاسفة أفذاذاً استمروا في حمل شعلة المعرفة لتتلقفها من تراثهم كل الحضارات الإنسانية؟! - أنا كنت أرغب في الحديث عن الثقافة الكويتية.- هذا الأمر هين، ومن الممكن الإلمام به بسهولة، فهل تنوي أن تكتب عن هذا الموضوع؟- ربما... لأنني كنت أتيت إلى الكويت عام 1958، عندما عُقد مؤتمر الأدباء هنا، ولم أتمكن من أخذ فكرة كافية عن الحركة الثقافية، وبعد أن نشطت الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عندكم، وأصبح لهذا التطور انعكاس على الثقافة والفن كنت أنوي بالفعل أن أعير هذا الموضوع اهتماماً، لكنك يا أستاذ بشر أدخلتني في حقل الفلسفة الإغريقية، وهذا موضوع محبب إليَّ، فياليتنا نستمر فيه.***• واستمر النقاش بين أحمد البشر الإنسان البسيط، الذي لا يدل مظهره على جوهره، مع أنيس منصور أستاذ الفلسفة، ليشتمل على الكينونة والعدم السارترية، ومثاليات عمانوئيل كانط، وديالكتية هيغل، وليبرالية فولتير، والأنسنة الدولية لابن عربي، والكثير من الأمور التي غيّرت وجه الحضارة الإنسانية، كنشوء وارتقاء داروين، وعلم نفس فرويد... إلخ... إلخ.***• بعد سنوات التقيت أنيس منصور فسألني عن المثقف الكويتي الحقيقي أحمد البشر فأخبرته بوفاته فقال: «إللي زي ده ما يموتش دا بقى علامة في مخي لا يمكن أنساها في حياتي»!.