القدس أولاً والقدس ثانياً والقدس أخيراً
من أخطر ما يتسرب عن ملامح ما يسمى "صفقة القرن" التي يقال إن فريق التفاوض الأميركي يعدها، استثناء القدس من الحلول المقترحة، والالتفاف على الإجماع الفلسطيني والعربي والدولي بكونها عاصمة لدولة فلسطين المنشودة. وتترافق تلك التسريبات مع التصاعد الهستيري لأنشطة الاستيطان التهويدية في القدس، وقرارات التطهير العرقي للتجمعات السكانية الفلسطينية فيما يسمى منطقة (E1) مثل جبل البابا والتجمعات البدوية المطلة على الأغوار، والهدف التطويق الكامل للقدس وفصلها عن محيطها في الضفة الغربية. وبالتوازي مع ذلك أعلنت اللجنة الوزارية في حكومة نتنياهو الاحتلالية إقرارها لفصل التجمعات السكانية الفلسطينية في مناطق مخيم شعفاط وكفر عقب عن مدينة القدس، تمهيدا لسلب حق الإقامة والهوية المقدسية من عشرات آلاف الفلسطينيين المقدسيين.
وترافق ذلك مع تصريحات رعناء لنائب الرئيس الأميركي سبنس، باقتراب موعد نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس، وبوعود أن الرئيس الأميركي ترامب سيعلن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولعل ما يشجع بعض المروجين الغربيين لشطب موضوع القدس من البنيان الفلسطيني الأوهام التي ترافقت مع تمركز مؤسسات السلطة الفلسطينية في مدينة رام الله بسبب منعها من الإقامة في القدس، والتوسع العمراني والاستهلاكي المبالغ فيه في تلك المدينة. لكن أصحاب تلك الأوهام لا يدركون ما الذي تعنيه مدينة القدس، ليس لثلاثة عشر مليون فلسطيني فقط، بل ما تعنيه لأكثر من ثلاثمئة مليون عربي وما يزيد على مليار وستمئة مليون مسلم، وما تعنيه لمليارين ومئتي مليون مسيحي، بل وما تعنيه كمدينة تاريخية مقدسة لكل البشرية بملياراتها السبعة. ولا أعتقد أنهم يدركون أنه لم يوجد ولن يوجد قائد أو مسؤول فلسطيني يمكن أن يتجرأ على التخلي عن مدينة القدس كعاصمة لفلسطين، وأن من يتجرأ على مجرد التلميح بإمكان ذلك التخلي، ضمن أي اتفاق أو مشروع سياسي قادم، سيوصم بالخيانة من كل الفلسطينيين والعرب المسلمين، لا توجد تهمة أبشع وأخطر وأقسى من تهمة الخيانة. ومن يتجرأ على اقتراح أفكار خطيرة لفصل القدس عن أهلها الفلسطينيين استجابة للمشاريع الصهيونية التي تروج لها الحكومة الإسرائيلية، لا يدرك المغزى التاريخي لما مرت به القدس في تاريخها الطويل، ولا يدرك بالتأكيد قدرتها على النهوض مجددا بعد كل احتلال، وبعد كل غزو، مهما عظمت أو طالت قدرات وفترات الغزو والاحتلال. وفي التاريخ عبر كثيرة تشير إلى أن كل من حاول احتكار السيطرة على القدس أو امتلاكها انتهى به الأمر إلى حرق أيديه في شوارعها وعلى أسوارها وإلى الاختفاء في غياهب النسيان، وبقيت القدس لأهلها والصامدين فيها، وعلى تخومها، وفي أكنافها. ومن لا تكفيه عبر التاريخ عليه أن يأخذ العبرة مما اجترحه أهالي القدس البواسل في شهر يوليو الماضي عندما انتفضوا بعشرات الآلاف ضد إجراءات نتنياهو وقيوده على الدخول للمسجد الأقصى، فأجبروه على التراجع مخذولا، وصنعوا بكفاحهم ومقاومتهم الشعبية ما عجزت عن صنعه حكومات ودول، ومنظمات دولية امتهنت إصدار البيانات بعد أن غدت عاجزة عن الأفعال. أهل القدس وأهل فلسطين لن يمرروا ولن يسمحوا بتصفية القدس، ولن يقبلوا بأي حل لا يضمنها عاصمة لشعبهم، وكل شعوب المنطقة التي تسامحت أكثر مما يجب مع ما ارتكب من مظالم بحقها، لن تتسامح بأي حال مع المس بمقدساتها الدينية والتاريخية في مدينة القدس وما تمثله بالنسبة إليها. فليلعب الواهمون في ملاعب أخرى، وليبتعدوا عن المس بالقدس، لأنها كفيلة بحرق مخططاتهم بصورة لم ولن يتخيلوها. القدس بالنسبة إلى فلسطين كانت وستبقى أول الحديث وآخره، شاء من شاء وأبى من أبى. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية