كيف ترد مصر على إرهابيي «الروضة»؟
عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، مطلع العقد الماضي، لم تكن الأمة الأميركية قادرة على استيعاب الصدمة، وبالتالي، فقد ظلت الدولة والمؤسسات والنخب والجمهور في حال انتفاض ورغبة في التعبير عن الغضب.الشيء نفسه حدث في فرنسا في أعقاب الهجوم المسلح على مقر صحيفة "شارلي إبدو"، وفي دول أوروبية أخرى عديدة ضربتها الأحداث الإرهابية الجبانة.لذلك، يمكن تفهم حجم مشاعر الغضب العارم، الذي يجتاح صدور المصريين في الوقت الراهن، من جراء الحادث الإرهابي المأساوي غير المسبوق، الذي ضرب البلاد في مطلع الأسبوع الأخير من الشهر الماضي.
لقد قتل إرهابيون بدم بارد مصلين يؤدون صلاة الجمعة، في أحد مساجد منطقة بئر العبد، بشمال سيناء، فقتلوا نحو 310، وأصابوا العشرات، الأمر الذي أصاب المجتمع بالذهول، وهز أوساط الحكم هزة بدت أثارها واضحة.وكان من المحتم أن تتفاعل الدولة والمجتمع والنخب والأفراد العاديون مع الحدث الجلل، وكان من المتوقع، بطبيعة الحال، أن يكون هذا التفاعل متأثراً بهول الفاجعة.لذلك، فقد ظهر في سلوك الدولة والنخب والمواطنين إزاء الحدث بعض ما يمكن مراجعته الآن، ليس بغرض النقض أو الجدل، ولكن بداعي التحسب والتأني وترشيد ردة الفعل، لتكون على قدر المسؤولية الضخمة التي تطرحها التحديات الإرهابية.فقد ظهر ميل واضح لدى قادة رأي وإعلاميين ومثقفين إلى الإسراع في خطوات تعبئة دعائية ضد الإرهاب، وهو ميل اتضح في عنوان سمعته في عدد من وسائل الإعلام يقول: "يجب أن يتحول إعلامنا إلى إعلام حرب".يجب ألا يتحول الإعلام المصري إلى إعلام حرب، لأن ذلك لا يخدم الحرب ضد الإرهاب، بقدر ما يحقق بعض أهداف الإرهابيين.معنى التحول إلى إعلام حرب أن يتم تجييش وسائل الإعلام لكي تعيد التذكير بارتهان الدولة لإرادة الإرهابيين، وأن يتم حرف هذه الوسائل مهنياً عن أدوارها المفترضة، التي بدونها لا يمكن أن يُعزز الأداء العمومي، يما يُمكّن المجتمع من هزيمة الإرهابيين.إعلام الحرب ليس هذا وقته، لأن الجمهور في غالبيته الحاسمة والمؤثرة يقف مع الدولة، وينفر من الإرهابيين ودعاواهم، ويثبت عند مقاصد المجتمع، ويذود عنها بصلابة.المؤسسات لا تحتاج إلى دعاية حربية، ولا ينقصها شحن أو توضيح، لأنها مطلعة ومدركة ومنطلقة من يقين في ضرورة التصدي للإرهاب.الدعوة إلى صيغة تعبوية ستنهك المجتمع، وتستنزف طاقته، في وقت يحتاج فيه إلى التركيز والعمل والعودة سريعاً إلى الإيقاع الطبيعي، من دون التخلي عن الأدوار المنطقية والبدهية في محاربة الإرهاب ودحره.من ناحية أخرى، أبدى البعض الارتياح والفرح لإعلان بعض الكيانات السيناوية عن تسليح قبائل سيناء، وعن قيامها بأدوار عسكرية وأمنية لمساندة الدولة في مواجهة الإرهابيين. لا ينبغي قبول فكرة أن يأخذ مواطنون ثأرهم بأيديهم، لأنهم حين يفعلون ذلك يفتئتون على أدوار أصيلة للدولة، تُعد منازعتها فيها، أو مشاركتها فيها، نقضاً لجوهر دورها، وتقويضاً لمسؤوليتها، واعتداء على هيبتها، حتى لو كانت تلك الأدوار تصب شكلياً في مصلحتها، وتنال مرحلياً من أعدائها.الإرهابيون القتلة اعتدوا على مواطنين أبرياء، وتلك جريمة نكراء، وخرق للقانون، واعتداء آثم ليس فقط على الإنسانية، ولكن أيضاً على الدولة، ودورها، ومسؤوليتها، وهيبتها.تلك الجريمة استهدفت الدولة، والدولة يجب أن تستخدم الوسائل المناسبة لمعاقبة مرتكبيها، في إطار القانون، لا أن تترك المواطنين يفعلون ذلك بطريقتهم.نحن نتذكر أن قانون "باتريوت أكت" الذي سنه الكونغرس الأميركي في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، جاء كرد فعل سريع وغاضب وغير مدروس على تلك الأحداث الكارثية، ونتذكر أيضاً أن ذلك القانون انتقص من الحقوق والحريات الأساسية التي نص عليها الدستور الأميركي، وأنه تلقى الكثير من النقد والطعن لاحقاً حينما هدأت العاصفة وسكنت الأحزان.نتذكر أيضاً في هذا الصدد، ما قاله "أشكورفت" النائب العام الأميركي آنذاك، حين حذر أي سياسي من الاعتراض على القوانين الجديدة التي تردع الإرهاب، وتخصم من الحقوق المدنية للأميركيين في آن. هكذا تفعل الدول مهما كانت ديمقراطية ورشيدة عندما تضربها الأحداث الإرهابية، لكن الذي يبقى لاحقاً كميراث جدير بالدرس والتقدير هو القدرة على مواجهة تلك الأحداث بمسؤولية واتزان، والحرص على دحر الإرهاب من دون الجور على حريات أساسية أخرى.يجب أن ترد الدولة على الإرهابيين، وأن تعرف كيف تنزل بهم العقاب الذي ينص عليه الدستور والقانون، وأن تبذل كل جهدها لكي تظهر للعالم الفارق بين العصابات المجرمة المأجورة وبين الدول التي يحكمها القانون، وتسيرها المؤسسات، وتضبط أداءها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صدقت عليها. يجب ألا تسهو الدولة، أو تنام على حق أبنائها، أو تتساهل مع أعدائها، وينبغي أن يكون ردها حاسماً، وقاطعاً، وموجعاً، ورادعاً، ومسؤولاً، لكن ليس غاشماً أو جائراً.لذلك، يجب أن تكون السياسات التي تنتهجها الدولة في مجال مكافحة الإرهاب، رغم قسوة الحادث وكارثيته، متسقة مع ما يقره الدستور وتحدده القوانين السارية، بما فيها قانون الطوارئ المعمول به راهناً.وفي هذا الصدد، من الضروري جداً الحفاظ على أرواح ومصالح ومشاعر أهالي سيناء، الذين يمثلون ظهيراً أساسياً وعاملاً مهماً من عوامل النجاح في المعركة ضد الإرهاب.ثمة إشكال آخر، يبدو أن كثيرين تورطوا فيه، عن حسن نية وسلامة قصد، في أعقاب المذبحة المأساوية؛ إذ ألح البعض على الأزهر الشريف بضرورة تكفير "داعش"، وهو الأمر الذي رفضه الأزهر باعتبار أن التكفير مسألة لها قواعد محددة، وأن إصدار فتوى بهذا المعنى يمكن أن "تفتح أبواباً لا يمكن إغلاقها".الأزهر محق ويجب ألا نستسهل مسألة التكفير، ويكفي أن هؤلاء قتلة ومفسدون، وأن القانون ينص على إعدامهم في حال ثبوت تهم القتل بحقهم، وهي أقسى عقوبة دنيوية في الإسلام على أي حال.بترشيد الغضب، وتركيز الطاقة، يمكن لمصر أن تعبر هذه المأساة، وأن تجابه التحدي الإرهابي.* كاتب مصري