شكل وتقنية مختلفان لكتابة السيرة عن طريق طرح أسئلة وأجوبة لسيرة مكان وزمان وأُناس اختارها الشاعر العراقي المبدع عبدالكريم كاصد لكتابه (أيهما الوطن؟ أيهما المنفى؟)، حاوره فيها الشاعر الصحافي العراقي معتز رشدي. ومن خلال هذا الحوار تتضح للقارئ سيرة طفولة، وسيرة وطن ومكان وزمن، فكل إنسان سيرته هي شريحة لا يمكن فصلها عن زمنه ومكانه والأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاصرته، الفرد حياته ما هي إلا انعكاس لمعطيات زمنه، ومن خلال ردود عبدالكريم كاصد المثقفة العميقة الواعية يتضح ما مر على العراق من تقلبات لأوضاع سياسية صعبة، وخاصة بعد انتهاء الحكم الملكي وتسلم الرئيس عبدالكريم قاسم الحكم، وما تلاها من تغيرات شديدة تم على أثرها استيلاء صدام حسين وحزب البعث على الحكم، وسيطرة قبضتهم على البلاد والعباد، وقيامهم بتصفيات كل من لا يتبع حزبهم، وعلى رأس هذه التصفيات كان الحزب الشيوعي، المنتمي له الشاعر عبدالكريم كاصد، ما دفع الكثير من الفنانين والأدباء والشعراء إلى الهروب بأي طريقة كانت خارج العراق، ما أدى إلى تشتتهم وتوزعهم بالمنافي.
ربما كانت الكتابة وحدها قادرة على التخلص من آلام وأوجاع التجارب الكبيرة القاسية، وما كتبه من منفاه وغربته يحفر في روح المتلقي لأعمق ما فيها، وهذا مقتطف منه: "أتساءل وقد تملكني الحزن: أي وطن هذا الذي يفضل أبناؤه أن يتحملوا العزلة في القطب على الإقامة فيه؟ أي وطن هذا الذي تبتعد عنه آلافاً من الكيلومترات لتحتفظ به فكرة، فكرة حسب، أرضاً بعيدة، ماضياً، تلتقي به حراً في عزلتك تستعيده أغنية، أو حنيناً، وتلعنه وتستعيده ثانية، وتبكيه، ولا يغادرك أبداً، ولا تغادره أبداً، حرين من كل الحواجز، وميليشيات القتل، والتهجير (وهنا تعود اللفظة ثانية بمعناها الملتبس، فهل هو نفي إرادي أم تهجير؟)".عبدالكريم كاصد يوضح صورة المنفيين بهذا المقتطف البليغ: "لقد أصبح للمنفيين شوارعهم، وأسواقهم، وحوانيتهم، ولغتهم، وفي بعض المناطق لم يعودوا يحتاجون إلى وساطة اللغة، إنها العزلة المنفية، العزلة السعيدة خارج المكان، ولا يعني نجاحك في المنفى أن تكون داخله، ضمن ذلك العدد الضئيل من المنفيين الذين تمثلوا المنفى وتمثلهم، بل ضمن ذلك السوق الذي مازال يلهج بلغته وتعابيره ومصطلحاته وبلاغته أيضاً".الكتاب يناقش قضايا وأطروحات وردودا على مغالطات الكتاب الآخرين واستخفافهم في تناول تجارب المثقفين بصدق وشفافية، ويُعري عبدالكريم كاصد التباساتهم وضيق أفكارهم، وموقفه من بعض المثقفين العرب، وهذا مقتطف: "فمن الإعلان عن موت الثقافة العراقية، إلى الإعلان مباشرة بعد صفحتين أو ثلاث عما هو نقيض التصريح السابق، عند حديثه عن انقسام الثقافة العراقية إلى ثقافتين؛ واحدة في المنفى، وأخرى داخل العراق، الأولى يسارية منفتحة وذات أفق، بينما الأخرى قومية متحجرة وذات اتجاه واحد ووحيد، من نصدق إذن؟".أعجبتني هذه الفقرة التي أوردها من كتاب إدوارد سعيد كدفاع عنه: "فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غراً طرياً، أما الذي يجد موطنه في كل أرض فقد بلغ القوة، غير أن المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضا غريبة، فالنفس الغضة تركز حبها على بقعة واحدة من العالم، والرجل القوي يشمل بحبه كل الأماكن، أما الرجل الكامل، فهو الذي يطفئ جذوة الحب لديه".الكتاب لا يمكن اختصاره بمقال قصير، لا يمكن ضم الحياة الهادرة وحبسها بمقال قصير، كتاب مهم أعطى تفسيرات عميقة ومهمة لجوانب عديدة ومتنوعة لمفاهيم مختلفة للحياة وللثقافة. وهذا مقتطف يبين رؤيته ويوضحها في قصيدته الرائعة (سراباد): "لم تعد اليوتوبيا هدفاً أو نهاية، بل مسيرة لا تنقطع إلى نهايات شتى وأهداف شتى، ورحيل لمستقبل هو ماض، وماض هو مستقبل أيضا، وحاضر دائم يتأسس منه ما يتلاشى، ليس ثمة قدر، بل إرادة ناس يتوجهون إلى أقدارهم، فلا تفاؤل هناك ولا تشاؤم، إنما حياة مليئة بالحركة والانكسارات". "سألنا عن سراباد البعيدة/ قيل من عامين جزناها/ وقيل لعلها البلد الذي يأتي/ وقيل لعلها جبل/ ومحضُ بحيرة مسحورة الأسماك/ قيل لعلها شجرٌ تحجر/ قلعة من صخرة صماء/ تسكنها التماثيل الغريبة/ قيل/ لكننا نأينا عن سراباد البعيدة".
توابل - ثقافات
أيهما الوطن؟ أيهما المنفى؟
04-12-2017