جلسة تصوير
يقدِّم علي المسعودي نفسه ككاتب للقصة القصيرة، ليس في هذا الإصدار فقط، وهو "جلسة تصوير"، إنما في مجموعاته الأخرى، مثل: "تقاطيع" و"ر... جوع" وغيرهما. ولتأكيد ذلك، أي تأكيد الانضواء تحت الجنس الأدبي، يحرص على الإشارة إلى مجموعاته بالوسم (قصص قصيرة). لكنه في الحقيقة يضلل القارئ، كمن يَعِده بدخول بيت لطيف ومنسق وذي مقاعد مريحة، ثم يكتشف الداخل إلى البيت أنه ذو شرفات واسعة أيضاً، وأنه يطل على جبل. في مجموعة "جلسة تصوير" تتداخل الأجناس، أو بالأحرى يتجاور القصّ والشعر، ثم يدخلان في سجال شائق، فلا تدري أيهما يسبق الآخر. وقد لا يحتاج القارئ إلى جهد كبير للتعرف إلى النصوص ذات النَفَس الشعري، لأنها تقدّم نفسها بكل ما تملك من ملامح دالّة. أول تلك الملامح طغيان الذاتية، وحديث النفس عن النفس، تلك المتلبسة في حالات شعورية تخصها هي، ليس كمؤلف ضمني (كما هي الحال في القصّ)، إنما كمؤلف حقيقي يجترح الشعر ويخوض في طينة الذات، ذاته هو. نجد ذلك على سبيل التمثيل، لا الحصر، في نص "الغريب المنتظَر": "عندما ألجُ إلى حالة خاصة جداً باللعب مع أطفالي / ألمح طفلاً يحشر نفسه بينهم/ يحمل نفس اسمي وتاريخ ميلادي وأحلامي / صرتُ أترقب لعبهم... منتظراً لحظة ظهوره".
وفي نص "جلسة تصوير": "يحمل تاريخ حياتي لحظة بلحظة / انتصاراتي وهزائمي / أول حب / أول صفعة / أول قبلة / هذه ابتسامتي التي ترفض الانصياع للمصورين / صمتي الدائم / جلجلتي في الضحك / كل هذه التفاصيل أريدها أن تظهر في الصورة / ثم أعطيها لرجل محترف في تزوير جوازات السفر". لعل مقام المقال ومساحته لا يسمحان بالإطالة في الأمثلة التي أراها طاغية في المجموعة، الأمر الذي يُشعر بتلبّس الكاتب للحالة، وإخلاصه للحظة التي تأتيه مشحونة بطاقة الشعر، وبينابيعه التي تمتاح من مجاهل النفس واسترجاعاتها ووطأة ذكرياتها الحسّية والنفسية. فيستجيب الكاتب لهذا الهاجس، محاولاً أن يمرر الشخصية الشعرية من بوابة الشخصية القصصية، فتخذله المحاولة، كما يبدو لي. الأمر الآخر الذي يرجّح كفة الشعر في المجموعة، هو عدم القدرة على الانسلاخ من لغة الشعر، التي أرى أنها لغة أصيلة أو بصمة شخصية، تماماً كالبصمة الوراثية، التي يصعب اللعب في مكوناتها الجينية. لغة منسكبة برهافة، تلين حروفها، وتتوالى كأنها موج بلا صخب، أو هواء بلا لفح، أو شيء لا تستطيع أن تصطاده بين أصابعك: "هي لا تعي الحياة التي تجتاحك مع الرائحة المتمددة في سواد الحرير الرقيق الناعم. لا تعلم أن عمرك يختبئ هنا... في العباءة... هنا يرمي بك المكان الدافئ إلى حضن أمك الحنون، عندما تستلقي متوسّداً ركبتها ورويداً يسرقك النعاس حتى تسدل عليك العباءة... فيدوّخك العطر الأخّاذ... وتغفو في أجواء الجنة".ورغم ذلك، فإن في المجموعة ما يصدق على جنس القصة القصيرة بشكل متقن. نرى ذلك في نص "حداء الصفيح"، ونص "الذود وهدرة الفحل"، اللذين امتلكا مجموعة من أسس وجماليات هذا الفن، منها وضوح القضية الاجتماعية، والعناية بانتقاء الشخصية ومتابعة نموها، ثم الاحتشاد بحسّ المفارقة الكامن بالأحداث، ناهيك عن التقمصّ البديع للمكان ومفرداته وأجوائه المستقاة من البادية والصحراء، بما في ذلك لغتها وإنسانها وحيوانها وأشياؤها الخاصة. مجموعة "جلسة تصوير" لعلي المسعودي تستحق أن تُقرأ على عدة مستويات، وهذه محاولة للاقتراب من خطوطها الأولى، ليس إلا.