تستعرض "الجريدة" في هذه الحلقة الفصلين الرابع والخامس من كتاب "في تشريح هزيمة يونيو 1967 بعد خمسين عاماً"، حيث يتناول في أولهما مصطفى عبدالظاهر كيف تلقى التيار الإسلامي، وخصوصاً جماعة "الإخوان"، نبأ هزيمة يونيو، راصداً المشاعر المضطربة حولها بين فرقاء المشهد المصري وقتذاك، بمن فيهم عبدالناصر نفسه، في حين يرصد بلال علاء في الفصل الخامس تحت عنوان "تيه القافلة"، طبيعة التحولات التي صاحبت الهزيمة وما بعدها، وخصوصاً مع انهيار مشروع عبدالناصر، مما سمح بظهور مشروع إسلامي معادٍ للشعب.

يستعرض الباحث مصطفى عبدالظاهر، في الفصل الرابع المعنون "الحركات الإسلامية في زمن الهزيمة"، كيف تلقى تيار الإسلام السياسي هزيمة يونيو 1967، في وقت شهدت سنوات حكم عبدالناصر صراعات قاسية بينه وبين جماعة "الإخوان"، وهي المرحلة التي سماها عبدالظاهر بمرحلة "زمن الهزيمة"، التي كانت هزيمة يونيو أمام الدولة الصهيونية أهم تجلياتها، إلا أنها لم تكن التجلي الوحيد.

Ad

أثارت مرحلة زمن الهزيمة سؤالا جديدا فرضته على القوى والفاعلين السياسيين كافة، بدلاً من سؤال "كيف نلحق بالغرب؟" أو "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، حيث تركز التساؤل أكثر على الواقع المباشر، وتمحور حول أسباب الهزيمة وعواملها، وكان مشابهاً لسابقه الذي طرح وقت النكبة عام 1948، إلا أن التبريرات الشائعة وقت النكبة أرجعت الهزيمة لفساد الحكام وموالاتهم للغرب الاستعماري، أما مع هزيمة يونيو فكان الأمر مختلفاً، إذ لم يكن هناك مفر من رجوع البصر كرة أخرى إلى الداخل، والتدبر في مسؤولية النظام الناصري والأنظمة العربية المستقلة عن الهزيمة الساحقة.

ويرصد عبدالظاهر انقسام ردة فعل الإسلاميين على تلك الأحداث إلى محورين مختلفين: العنف والإصلاح، وكانت ذروة المحور الأول ومرجعيته الأساسية، ربما حتى الآن، هي عمل سيد قطب "معالم في الطريق"، إذ مال المتأثرون بمقولات قطب إلى اعتماد العنف أداة وحيدة للتغيير الاجتماعي، بعدما أسس الرجل قطيعة معرفية داخل الحركة الإسلامية مع مقولات "الإصلاح" و"الأمة" التي اعتمدها حسن البنا، واستبدلهما بمقولتي "الحاكمية" و"الجاهلية".

ورأى أتباع قطب، الذي أعدم عام 1966، في هزيمة يونيو دليلاً عملياً على ما بشر به الرجل حول "نهاية التاريخ" واستحالة الإصلاح بلا مباينة تامة بين المسلمين وغيرهم، وأن على المسلمين أن يعودوا إلى أصولهم بعد ما أصابتهم جميعاً، كما غيرهم، جاهلية تشبه الجاهلية التي قضى عليها ظهور الإسلام، فبحسب قطب، ليست الجاهلية مجرد وصف للمرحلة الزمانية السابقة على الإسلام، بل هي حالة وجودية تحيط بالمسلم في كل جوانب حياته منذ انتهاء عصر الخلافة الراشدة، ولا يمكن معها إصلاح، ولا ترتكز حول دولة أو أمة بالمعنى الذي أقره البنا.

أما المحور الثاني، بحسب تقسيم مصطفى عبدالظاهر، فيتمثل في رد فعل الجناح المخلص لتعاليم البنا داخل "الإخوان المسلمين"، فكان إصلاحياً، وكان بمنزلة رد على أفكار قطب والمتأثرين به من ناحية، وعلى فشل المشروع الناصري من ناحية أخرى، إذ أصدر المرشد الثاني لجماعة "الإخوان"، المستشار حسن الهضيبي كتابه "دعاة لا قضاة"، الذي أفرد أغلب صفحاته للرد على دعاوى قطب، وأعاد الهضيبي جماعة "الإخوان المسلمين" إلى إصلاحية البنا، لكن على خلفية سؤال عام مختلف عما طرح في عصر البنا، وكان ما أسس له الهضيبي جذراً للتطورات الفكرية اللاحقة التي مرت بها جماعة "الإخوان" حتى عام 2013.

احتفظ الهضيبي بما في أيديولوجيا البنا من غموض وإصلاحية وتلفيق بين المصادر، لكنه تشبث أكبر بالدولتية وأدواتها، كنتيجة للخوف من الفقدان التام للدولة بعد انتكاسها، وكذلك للخوف من ميل اليائسين من أبناء الحركة إلى اعتماد العنف أداة وحيدة للتغيير، وترسخ ذلك المنظور أكثر مع صعود أنور السادات إلى السلطة، ومع توسعه في تقنين الشريعة الإسلامية، وميله لاستخدام الجماعات الإسلامية حليفا ضد أعدائه من القوميين والشيوعيين.

تأثير الهزيمة

يرصد عبدالظاهر تأثير الهزيمة على جميع فرقاء المشهد المصري، إذ أصبح عبدالناصر على وعي تام بتأثير الهزيمة على شرعيته، فسعى إلى تقديم نفسه زعيماً صاحب شرعية دينية، فهو يقول في خطاب له في أغسطس 1969 على سبيل المثال: "جنودنا في معركتهم القادمة لن يكونوا جنداً للأمة فحسب، وإنما جنود الله، حماة عقيدته ومقدساته"، في وقت أصابت الهزيمة "الإخوان" بالصدمة، لكنهم شعروا بالشماتة لما أنزلته من مهانة بنظام عبدالناصر.

وفسر بعض الدعاة الهزيمة بكل بساطة بأنها عقاب إلهي أنزله الله على نظام الملحدين الذين أعدموا الإخوان وغيرهم من المؤمنين، إلا أن هذا التفسير السببي الغيبي الذي قدمه الدعاة العاديون لم يكن عماد تفسير الحدث نفسه عند منظري الحركات الإسلامية، فقد اعتبر هؤلاء أن البناء الأيديولوجي، بعناصره الحديثة المبنية على الاعتقاد في التقدم التاريخي، ومن ورائه المناهج الإصلاحية التي أقرها الإصلاحيون المسلمون (ومن بينهم البنا بالطبع)، هو أساس الهزيمة والنكبة الجديدة.

وهكذا، دخل بعض منظري الحركات الإسلامية في حالة من اليأس بعد هزيمة يونيو أدت بهم إلى اعتقاد بنهاية التاريخ، وأورثتهم كفراً بكل سبل الإصلاح و"التقدمية" التي كانت شائعة بين سابقيهم، ورأى بعضهم وجوب "العمل" من أجل استعادة التاريخ بمفاصلة كبرى بين طرفي النقيض، الكفر والإيمان، مثلما قال قطب، أما البعض الآخر فلم يفكر حتى في مفاصلة بين كفر وإيمان، بل رأى أن العودة إلى "الأصول" والقيم الإسلامية هدف في ذاته لا يرجى منه أي تغيير "للوجود التقليدي"، أي الأوضاع العامة من فساد وهزيمة، بل هو الهدف الوحيد الممكن، وهو الوسيلة في الآن نفسه، لاستعادة "التاريخ" بعد انتهائه.

تذهب كثير من التحليلات إلى أن أهم آثار هزيمة يونيو على الحركات الإسلامية كان ظهور الحركات التكفيرية والمسلحة المتأثرة بأفكار قطب، إذ وجدت تلك الحركات متسعاً لنشاطها، وفرصة لاستمالة أعضاء جدد من أفول عصر القومية العربية، "هذه التحليلات وإن كانت محقة في جانب ما، فإنها تقلل من أهمية رد فعل محافظي جماعة الإخوان على كتابات قطب، إذ كان الخلاف الذي نشب داخل الجماعة حول كتابات قطب أهم خلاف في تاريخ الحركات والتيارات الإسلامية في العصر الحديث"، فتأثير زمن الهزيمة على محافظي الإخوان لا يقل أهمية عن تأثيره على قطب وتابعيه، فالأولون هم السواد الأعظم من أبناء أكبر حركة إسلامية سياسية في مصر، ولا يزال ما أسسته تلك الفترة مستمراً في تأثيره إلى يومنا هذا.

هوية الهزيمة

ويتناول بلال علاء في الفصل الخامس "تيه القافلة"، هوية الشعب المصري في هذه الفترة الحرجة، التي تمثلت في هزيمة إسرائيل ثلاث دول عربية مجتمعة، وكانت الانتصارات الثلاثة ساحقة وبلا مقاومة فعلية، كأن إسرائيل تحارب جيوشا من ورق، فـ"لو كانت البلدان الثلاثة خاضت معركة مشرفة وانهزمت لأمكنها استيعاب الهزيمة في الخطاب بصفته نتيجة محتملة لأي حرب، لكن عمق الهزيمة وسرعتها جعلا النظام مكشوفا تماما، بعد زوال ادعاءات التقدم والتصنيع والسير نحو الحداثة ومناطحة الإمبريالية، فقد جعلت الهزيمة إسرائيل مستعمرا منتصرا لا يأمل أحد في هزيمته هزيمة كاملة".

وشدد علاء على أن "الأب انهزم أمام أبنائه، ولن يعود بإمكانه فرض سطوته في البيت، وبات كل منهم يشعر بالخذلان وبالصدمة في شخصه، لو انتصر عبدالناصر، لكان خلّد نفسه أبا للدول العربية لزمن طويل، لكنه هزم، ولذا فإن أشباحه التي تلوح من آن لآخر هنا وهناك ليست عودة للأب، بقدر ما هي حنين للحظة الوثوق به".

ويلفت النظر إلى أن أبرز ما يميز غالب التفكير السياسي الرسمي بعد 67 من افتراض مضمر حول ديمومة الهزيمة... وبما ان الدول العربية التي تسمى "دول المواجهة" ستنبذ فعلياً بسلوكها فكرة الحرب نهائياً، فإن هزيمة هذا المستعمر باتت عملياً مستحيلة، لتصبح إسرائيل، من منطلق المواجهة العسكرية التقليدية، دولة دائمة الانتصار، والعرب دائمي الهزيمة، وسيشكل ذلك فرصة لتتفجر مشاعر الإحساس بالعار وفقدان الكرامة في كل مناسبة تسعى فيها إسرائيل إلى نكء الجراح بغزو هذا البلد أو ذلك، وهو أمر حرصت إسرائيل على تكراره من حين لآخر لتأكيد هذا الشعور.

ومن المناسب التفكير في أن الحرب الوحيدة، التي كان لها هدف شبه هجومي، خاضتها "دول المواجهة" بعد الاستعمارية مع إسرائيل في 1967 للتضامن مع سورية لا مع فلسطين، بينما كانت الحرب الوحيدة التي جرت دفاعاً عن فلسطين في 1948 بقيادة الملكيات القديمة الخاضعة للاستعمار الغربي، وبرغم كل العنتريات التي أجادتها الأنظمة القومية ما بعد الاستعمارية، فإنها في أية مرحلة وتحت أي ظرف لم تفكر ولو للحظة في الحرب من أجل الفلسطينيين، لقد كان اعتراف الأنظمة العربية فعلياً بإسرائيل كاملاً وغير مشروط، ولم تتعرض إسرائيل لأية مساءلة حقيقية لوجودها.

ويرى علاء أن الاستعمار القديم جعل العرب يفكرون في حتمية الاستقلال ثم التقدم، لكن زوال الأمل في التخلص من المستعمر الجديد سيساهم في جعل أقلام عربية كثيرة تمضي عقوداً طويلة في تدبيج الكتابات التي تحاول تفسير تخلف العرب، وليأسها من الاستقلال، فإن الكثير من تلك الكتابات ستعتبر التخلف مشكلة بنيوية بسبب نوعية العقل العربي نفسه، وستدق طبول معركة ضخمة تستغرق أكثر من عقدين من الزمان حول التراث العربي، بحثا عن الجذور التاريخية لتخلف هذا العقل، وسيجزم كثيرون بأن كتابات هذا العالم أو ذلك الفقيه منذ مئات السنين هي سبب الهزيمة الدائمة المبتلى بها عالمنا.

تيارات ما بعد ناصر

ويعتقد علاء أن النظام خسر هيمنته الأيديولوجية على شرائح من الشعب عندما خسر الحرب في 1967، وفي الوقت نفسه لم يكن قادراً، بسبب تبعات الهزيمة، على ممارسة الحد الأقصى من العنف لإعادة من سيتجاوز الخطوط الحمراء إلى الحظيرة، كذلك لم تكن المؤسسات التي صنعها النظام لاحتواء ذوي الميول السياسية اليسارية في أحسن أحوالها، وعليه فقد خرجت أول تظاهرة شعبية ضد النظام منذ 1954 في العام الدراسي الذي سيلي عام الهزيمة مباشرة.

قبل ذلك، رأى عبدالناصر في تظاهرات 9 و10 يونيو التي طالبته بعدم التنحي تفويضاً خاصاً يستثنيه من أية محاسبة، واعتبر هذا التفويض حكراً عليه هو فقط، وعليه بدأ محاولات إصلاحية شكلية لامتصاص غضب الناس من النظام، وستكون محاكمة قادة سلاح الطيران من ضمن هذه الإجراءات وحين سيصدر الحكم عليهم بأقل مما توقع الناس لهزيمة بهذا الحجم، سيخرج العمال للاعتراض وستهاجمهم الشرطة، ثم سيخرج الطلاب للتضامن مع العمال ورفع مطالب شبيهة، وإن كانت أكثر عمومية وأكثر تعبيراً عن بداية تغير بوصلة الشباب.

وعلى الرغم من أن النظام احتوى تلك التظاهرات سريعاً، فإن المطالب الثمانية التي رفعها الطلاب عبرت عن رغبة في إصلاح جذري للنظام كله، فإضافة إلى المطالب المباشرة المتصلة بالحراك الطلابي والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وإعادة محاكمة قادة الطيران، وهو ما استجاب له النظام ببطء، كانت هناك أربعة مطالب ديمقراطية صريحة تشمل المطالبة بحرية الرأي والصحافة، ومجلس نيابي حر، وإبعاد المباحث عن الجامعات، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها.

لكن هذه المطالب العمومية لم تكن قادرة على تشكيل إجابة جذرية مغايرة للنظام، رغم أن استجابة هذا الأخير لها كانت كفيلة بتأكيد التغيير الواضح في بنية دولة اعتادت مؤسساتها طويلاً على الوجود في الساحة منفردة، بيد أن هذه الاستجابة لم تتطرق للمطالب العامة الأعمق، فلم يكن الضغط قوياً بما فيه الكفاية، كما أن العمال والطلبة الغاضبين في 1967 و1968 عجزوا عن تعبئة الجماهير خلف أيديولوجية مضادة للنظام بكاملة، أو عن تفجير طموح حقيقي لاستبداله، وهو ما لم تكن موازين القوى تسمح به بالفعل، وكان هذا هو أحد أسباب قدرة النظام المستمرة على إجهاض كل المطالبات الديمقراطية لعقود لاحقة.

تتمثل أهم تنازلات النظام العلنية في إعلان عبدالناصر في "بيان 30 مارس" الذي صدر في 1968 بعد شهر واحد من انتفاضة الطلبة، أن أحد أسباب فشل الاتحاد الاشتراكي كآلية سياسية هو طريقة التعيين فيه، لأنها تسمح لـ"مراكز القوى" بالتحكم في المعينين مما يمنحها القدرة على حماية نفسها، سيدعو البيان، تلافياً لذلك، إلى انتخاب كامل أطر الاتحاد من القاعدة إلى القمة، لكن عبدالناصر، الذي أصبح ضعيفاً، لن يكون قادراً على إنجاز أي تغيير أو إصلاح، سواء كان كلامه جدياً أو مجرد بروباجندا مضللة كما تعود، لأنه هو نفسه عصب النظام الذي يحتاج للتغيير.

وعلى الرغم من أنه سيصرح في البيان نفسه بأن "التغيير المطلوب لابد له أن يكون تغييراً في الظروف وفي المناخ، وإلا فإن أية أشخاص جدد في الظروف نفسها وفي المناخ نفسه سيسيرون في الطريق الذي سبق إليه غيرهم"، فإن أي تغيير بأي حجم كان يستدعي أولاً خروج عبدالناصر نفسه من المشهد، وهو ما ستحققه وفاته المفاجئة المبكرة عن 54 سنة، لتفتح كل إمكانات التغيير.

بعد رحيل عبدالناصر، وبشكل فوري ومفاجئ، تآكلت الهيمنة الثقافية للنظام، دون استعداد من أحد لحصد ثمار ذلك، تطلب الأمر وقتاً حتى تصعد قوى جديدة تستغل الفراغ الذي تركه النظام في صورة مساحات للحركة لم تكن موجودة من قبل، ومساحات في العقول أصبحت فارغة بعد انهزام القومية الناصرية.

نظرياً، كان من الممكن أن يتمخض تآكل هيمنة نظام اشتراكي عروبي عن تيارين متنافسين على كسب المساحات الفارغة: تيار ليبرالي مؤيد للانفتاح الاقتصادي، وتيار داع لهوية إسلامية ورافض للهوية العربية كمركز للذات، لكن ما حدث كان أن الدولة نفسها أصبحت بعد حرب 73 هي الداعية الرئيسي للرأسمالية والانفتاح الاقتصادي، لكن دون أي تداول حقيقي للسلطة، باستثناء التعدد الحزبي الشكلي إلى حد بعيد، "وتعايش الناس مع فكرة المهادنة مع إسرائيل والتقرب من أميركا، وهو ما يفسر محدودية معارضة اتفاقية كامب ديفيد، رغم كونها انقلابا كاملاً على ما كان يعلنه النظام قبل أقل من عقد واحد، لقد جعلت الهزيمة، التي ستظل ممتدة ومتغلغلة داخل التركيبة النفسية، وليس انتصار أكتوبر، عموم الناس راغبين في تسيير الحياة برتابة وهدوء ودون أية مغامرات كبرى مرة أخرى".

وشدد الباحث على أن الفشل مع الهزيمة أنتج تياراً يساريا معارضاً، يستبطن التصورات الناصرية عن الدولة، والذي سيعلن نفسه في الأنشطة الجامعية الداعية للإسراع في محاربة إسرائيل في التظاهرات الشهيرة سنة 72، وسيكون مسكوناً من الداخل بتناقضين: الأول هو مشاعره المرتبكة تجاه النظام الناصري، حيث رفض بشكل واضح قمعه الأمني الذي لم يعد ممكناً تبريره بعد الهزيمة، لكنه في الوقت نفسه استبطنه كماض ذهبي يحن إليه، والتناقض الثاني هو ابن الأول، وهو أنه في محاولته للظهور كتيار معارض للنظام الجديد، سيفشل، لحنينه للنظام القديم، في طرح نفسه بديلاً مناقضاً وجديداً للموجود.

فيما التيار الثاني هو الداعي إلى العودة إلى هوية إسلامية، خصوصا بعد خروج الإخوان من السجون، وطرح نفسهم كبديل للنظام، فضلا عن أنه روج إلى أن سبب التدهور بالأساس هو ابتعاد عامة المواطنين عن الطريق القويم، وكانت دعوته أكثر تواضعاً: على الناس أن يعودوا للمساجد ويلتزموا بالتعاليم الإسلامية، لينصرهم الله، بعد أن عاقبهم بالهزيمة نتيجة لذنوبهم، لكن كانت الهوياتية الإسلامية أكثر عدائية تجاه الشعب، حيث أعلنت صراحة أنه كافر.

ويخلص بلال علاء إلى أنه ليس مستغرباً أن تياري الهوية الأكبر والأكثر انتشاراً، القومية والإسلامي السياسي، يفصل كلاهما نفسه مبدئياً عن الشعب الذي من المفترض أنه مستودع هذه الهوية، إما لأن "شعبنا الآن كقافلة كان يجب أن تلزم طريقاً معيناً، وطال عليها الطريق، وقابلتها المصاعب، وانبرى لها اللصوص وقطاع الطرق، وضللها السراب" كما يرى عبدالناصر في "فلسفة الثورة"، أو لأننا "اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وموارد ثقافتهم وفنونهم وآدابهم، وشرائعهم وقوانينهم" كما يرى قطب، تظل الهوية لدى هذين التيارين فكرة أيديولوجية عن الهندسة الاجتماعية، فكرة لتغيير الهوية لا تثبيتها.