تختتم "الجريدة" عرض كتاب "في تشريح الهزيمة"، باستعراض أهم ما جاء في الفصل السادس المعنون بـ "هزيمة 67 الهيكلية والمستمرة"، والذي كتبه المؤرخ المصري خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة هارفارد، والذي يرصد فيه الصراع الضخم الذي دار داخل أروقة النظام المصري بين الرئيس جمال عبدالناصر، والمشير عبدالحكيم عامر، والذي خرج منه الأخير منتصراً، وهو الصراع الذي يعتبره فهمي السبب الرئيسي في الفوضى التي قادت إلى الهزيمة الكارثية أمام إسرائيل.
في الفصل السادس، يستعرض خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بدايةً الرواية الرسمية لهزيمة 1967، والتي روج لها محمد حسنين هيكل، باعتبارها نكسة أصيبت بها مصر سرعان ما تعافت منها وتخطتها، فبقدر ما كانت العزيمة والإصرار على تخطي هذه الهزيمة قويين، بقدر ما كان النجاح والانتصار اللذان تحققا في أكتوبر 1973 مبهرين.لكن فهمي لا يترك هذه السردية دون نقد يقول: "هل كانت الهزيمة مجرد هزيمة عسكرية نجحنا في تحويلها إلى نصر مبين بعد الإصرار على التخلص من القيادات الفاسدة واستبدالها بأخرى منضبطة وعلى درجة كبيرة من المهنية والاحترافية؟ أم كانت هزيمة هيكلية للنظام السياسي والاجتماعي والثقافي لا للمؤسسة العسكرية فقط؟ وهل كان ما أصابنا في 67 مجرد نكسة تمكنا من التغلب عليها وتخطيها؟ أم أننا مازلنا نعيش الهزيمة؟" هنا يبدأ فهمي تحليل ما جرى في تلك الفترة المفصلية في تاريخ مصر، مركزا على الصراع بين جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر باعتباره أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن السبب الرئيسي وراء الهزيمة.يستعرض فهمي خمس محطات مفصلية في الأزمة أدت إلى كارثة الحرب، لفهم آليات صنع القرار، وتحديداً عن علاقة مؤسسة الرئاسة بالمؤسسة العسكرية، وعن العلاقات الشائكة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، فمثلا أمر حشد القوات المصرية في سيناء يوم 14 مايو، اتخذ من قبل عبدالحكيم عامر وشلته في اجتماع أركان حرب القوات المسلحة والذي لم يحضره عبدالناصر، وتم إخطاره بالقرار هاتفيا.المحطة الثانية تتعلق بقرار طرد قوات الأمم المتحدة في 16 مايو، وهو القرار الذي أظهر مصر بمظهر الدولة التي تريد دخول الحرب، فقد أراد عبدالناصر إعادة توزيع القوات الدولية وليس سحبها، لكن عامر كان له رأي آخر إذ رفض فعليا تعديلات عبدالناصر على طلب إعادة القوات الذي سيسلم لقائد القوات الجنرال ريكي، واعتمد عامر على نسخة متشددة تطالب بسحب القوات بشكل كامل، وتعلل بأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لإجراء التعديلات التي طلبها عبدالناصر، وكانت نتيجة هذا التصرف أن قامت الأمم المتحدة بسحب كل القوات.أما المحطة الثالثة على طريق الحرب، فكانت قرار إغلاق مضايق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية يوم 22 مايو، يقول خالد فهمي: "مرة أخرى نرى هنا تأثير النزاع الخفي بين الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر بشأن هذا القرار الحاسم... ويمكن التدليل على الفجوة الشاسعة التي كانت تفصل بين عبدالناصر وعامر بخصوص الموقف من إغلاق مضايق تيران بالرجوع قليلاً إلى الوراء، تحديداً يوم 17 مايو، وهو اليوم الذي بدأت فيه فكرة السيطرة على المضيق، وليس إغلاقه، تطرح نفسها، ففي هذا اليوم دعا عبدالناصر معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق إلى اجتماع في بيته وطرح عليهم فكرة السيطرة على المضايق".وهنا نجد أن جمال عبدالناصر قد أراد من دعوة مجلس قيادة الثورة القديم للاجتماع مواجهة عبدالحكيم عامر والوقوف ضده في قرار إغلاق خليج العقبة، وأن يساند عبدالناصر في فكرة السيطرة المصرية على الخليج فقط كورقة ضغط على إسرائيل، ولكن من الواضح أنه استجاب لرأي الجميع الذين أيدوا موقف عبدالحكيم عامر.أما المحطة الرابعة فتتعلق بالخطة الهجومية "فجر" أعطى لها عامر الضوء الأخضر، قبل أن يتدخل عبدالناصر لإلغائها في آخر لحظة، بعد أن تسربت أنباؤها إلى إسرائيل، ومنها إلى واشنطن، ومنها إلى موسكو، وأخيراً إلى القاهرة، الغريب أن عامر اعتمد الخطة فجر دون الرجوع إلى عبدالناصر ولم يحصل على موافقته، وهو الأمر الذي أقلق الأخير، فعامر كان يخطط لعملية هجومية ضد إسرائيل، في الوقت الذي كان عبدالناصر يحاول أن يهدئ الوضع وأن يجد مخرجاً دبلوماسياً للأزمة التي أشعلها عبدالحكيم عامر بالأساس.أما المحطة الأخيرة من محطات الأزمة التي أفضت إلى اندلاع القتال يوم 5 يونيو، فكانت الاجتماع العسكري – السياسي الذي عقد في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 2 يونيو، وأكد عبدالناصر في هذا الاجتماع على ضرورة عدم البدء بالهجوم وعلى أهمية تلقي الضربة الأولى، وإزاء اعتراضات بعض القادة، وعلى رأسهم الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، حاجج عبدالناصر بأنه سيدير المعركة سياسياً، وكي يستطيع أن يفعل ذلك لا يجب أن يستعدي الولايات المتحدة، ومما يلفت النظر أن عامر لم يخالفه الرأي هنا، لكنه في الواقع ومن خلال تصرفاته في الأيام المقبلة لم يعر توجيهات الرئيس أي انتباه، كان أبرزها ترتيب زيارة للجبهة صباح يوم 5 يونيو، أي اليوم نفسه الذي تنبأ عبدالناصر أن يقوم الإسرائيليون بشن هجومهم فيه، "والتفسير الوحيد لقرار المشير هذا هو أنه لم يصدق كلام الرئيس أو لم يعره انتباهاً".
سرديتا الهزيمة
ويتوقف فهمي بعد ذلك عند تبرير كل من عبدالناصر وعامر للهزيمة، قائلا: "نحن إذن أمام سرديتين عن الهزيمة وأسبابها، الأولى تأخذ صف المشير عبدالحكيم عامر وترى أن الجيش كان ضحية الحسابات السياسية، وأن القوات المسلحة مُنعت من خوض القتال في توقيت من اختيارها، واضطرت إلى دخول المعركة في ظروف غير مواتية، وهو ما أدى إلى الهزيمة، ومن أهم مروجي هذا الرأي عبدالصمد محمد عبدالصمد في كتابه (العشاء الأخير للمشير)، والفريق أنور القاضي في حديثه إلى مجلة (آخر ساعة)... والفريق أول صدقي محمود في حديثه إلى لجنة كتابة تاريخ الثورة المنشور ضمن الكتاب الذي حرره سليمان مظهر بعنوان (اعترافات قادة حرب يونيو: نصوص شهاداتهم أمام لجنة تسجيل تاريخ الثورة) الصادر سنة 1990، وشهادات عدد من الضباط الذين اشتركوا في حرب يونيو والمنشورة ضمن كتاب (ضباط يونيو يتكلمون)...أما السردية الثانية فتقدم الحقائق من وجهة نظر الرئيس جمال عبدالناصر، وأهم من عبر عن هذه السردية محمد حسنين هيكل في كتاباته العديدة والغزيرة، والتي يعتبر كتابه (الانفجار) من أهمها، والفريق أول محمود فوزي في مذكراته (حرب الثلاث سنوات)، ومدير مكتب الرئيس عبدالناصر للمعلومات سامي شرف في مذكراته التي جاءت ضمن كتاب (عبدالناصر: كيف حكم مصر؟)... وأمين هويدي في كتاباته، ومن أهمها (أضواء على أسباب النكسة)".يتابع: "بما إن الرئيس عبدالناصر عاد للحكم بعد تنحيه عن الحكم بأقل من 24 ساعة، وبما أن المشير عامر انتحر، أو استُنحر، بعد الهزيمة بثلاثة أشهر، وبما أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن سردية عبد الناصر- هيكل هي التي شاعت، وشاع معها لفظ النكسة للتعبير عما حدث في تلك الأيام العصيبة من تاريخنا... ليس الغرض هنا الحكم على هاتين السرديتين بالصواب أو العوار، بل التأكيد على أن هذا التضارب هو نفسه عنصر من عناصر الهزيمة، وأن الصراع بين عبدالناصر وعامر، الذي تعكسه هاتان السرديتان، سبب رئيسي، إن لم يكن السبب الرئيسي، وراء الهزيمة".صداقة وصراع
يستعرض فهمي استنادا إلى كتاب حازم قنديل "عسكر وجواسيس ورجال دولة: طريق مصر إلى الثورة"، والصادر بالإنكليزية عام 2014، فضلا عن شهادات وكتب معاصرة للأحداث في تحليل طبيعة العلاقة التي جمعت بين عبدالناصر وعامر وقادت بتشابكاتها إلى التأثير بقوة على شكل وطبيعة الحكم في مصر، فالصداقة الممتدة بينهما منذ سنوات الالتحاق بالكلية الحربية ثم المشاركة معا في حرب 1948، وبعدها التخطيط لانقلاب 23 يوليو 1952، كانت قوية وحميمية، فكان من الطبيعي أن يفضل عبدالناصر أن يتولى عامر قيادة الجيش، وضغط على محمد نجيب من أجل ترقية عامر من رتبة صاغ إلى رتبة لواء مرة واحدة، الأمر الذي أثار استياء قائد سلاح الطيران –وقتذاك- اللواء حسن محمود الذي تقدم باستقالته فورا احتراما لرتبة اللواء، فتم تعيين الطيار صدقي محمود الذي ظل قابعا في مركزه كقائد لسلاح الطيران وكخادم مطيع لعبدالحكيم عامر حتى هزيمة 67.لكن الصداقة ما كان لها أن تستمر في أروقة الحكم حيث البقاء للأقوى وصراع النفوذ لا يترك مساحة لصداقة من أي نوع، خاصة عندما تستغل الصداقة من أجل التغطية على كوارث ترتكب بدماء باردة، لذا بدأ الصراع الخفي سريعا بين ناصر وعامر منذ العدوان الثلاثي عام 1956، إذ ظهر الأداء المتواضع للقوات المسلحة، وهو ما جعل عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يطالبون بضرورة تنحية المسؤولين عن الأداء المخزي للجيش في الحرب، لكن عامر رفض.ثم أتت ثاني محطات الخلاف بعد الانفصال عن سورية عام 1961، إذ اتضح للجميع أن إدارة عامر الكارثية كانت أحد أسباب الانفصال، فضلا عن أن التخطيط للانقلاب جرى في مكتب عامر نفسه، فرأت القيادة السياسية ضرورة إبعاد بعض القيادات العسكرية التي كانت تعمل هناك، لكن عامر اعترض ودافع عن رجاله، ونجح في حمايتهم من عبدالناصر.يعلق خالد فهمي على هذه المواجهة مستشهدا بأمين هويدي قائلا: "كان من نتيجة هذه المواجهة بين الرئيس والمشير أن أدرك المشير أنه يستمد سلطته من القوات المسلحة، فوثق صلته بقادتها، وظل يواصل العطاء لكل من يطلب فيقرر المنح ويقدم الخدمات، وأهلته طبيعته الشخصية لذلك حتى اكتسب حب المحيطين به، وأصبح للطفل المدلل أظافر وأنياب ولم يعد عبدالحكيم عامر القديم".انقلاب أبيض
أما أهم وأخطر محطات الصراع بين الرئيس والمشير فحدثت في عام 1962، إذ قرر عبدالناصر التحايل على صديقه القديم لإجباره على ترك قيادة الجيش، عبر دعوته للمشاركة في مجلس للرئاسة، وانعقد في 26 مارس 1962، وكان من ضمن القرارات التي اتخذها ضرورة ترك المشير عامر قيادة القوات المسلحة لقائد محترف يكون مسؤولا مسؤولية دستورية أمام الشعب، ورغم موافقة جميع الأعضاء بمن فيهم عامر نفسه، إلا أن عبدالناصر فوجئ بعد عدة أيام، بشمس بدران أمامه نيابة عن عامر، ويقول إن المشير تراجع وسحب موافقته وأنه لا يزال متمسكا بقيادته للقوات المسلحة.جن جنون عبد الناصر واستدعى أعضاء مجلس قيادة الثورة، بناء على رواية أنور السادات في "البحث عن الذات"، والذين أيدوا خطوة إخراج عامر من الجيش، رد عامر بالتقدم باستقالته في مطلع ديسمبر 1962، وذيل استقالته بتهديد مبطن لعبدالناصر وأعوانه وكتب: "أرجو ألا يحدث مني أو منك ما يجعل ضميرنا يقدم على عمل نخشى الإقدام عليه، أو يجعلنا صغارا في أعين أنفسنا"، واجتمع رجال عامر في مبنى القيادة فيما يشبه المظاهرة العسكرية وطالبوا بعودة المشير، عندها رضخ عبدالناصر لهذا الابتزاز، ووافق على عودة المشير إلى قيادة القوات المسلحة مع منحه لقب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة".خرج عامر منتصرا من المواجهة وعمل على تعضيد نفوذه وإحكام قبضته على الجيش، ففي سنة 1966 أجبر عبدالناصر على إصدار قرار جمهوري سلبه سلطة الإشراف على القوات المسلحة، عندما تقرر أن يتولى شمس بدران وزير الحربية معاونة نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في ممارسة اختصاصاته وسلطاته، ويكون مسؤولا أمامه عما يفوضه فيه من شؤون القوات المسلحة من الناحيتين الإدارية والعسكرية، وكان بدران أحد رجال عامر وهو ما يكشف "كيف غُلت يد عبدالناصر عن كل الأمور العسكرية في البلاد، وكيف انتصر عليه صديق عمره في هذا الانقلاب الأبيض، بحسب خالد فهمي.صراع عميق
يرى فهمي أن "هذا هو الوضع الذي كان عليه الجيش عشية الحرب: صراع عميق في صلب الدولة بين قطبي السلطة، واستقلالية للجيش حتى صار دولة داخل دولة، وغياب أية رقابة على المؤسسة العسكرية، ليس فقط من الشعب بممثليه في البرلمان أو في الصحافة، بل أيضاً من الحكومة أو من الرئيس نفسه، وانقسام في القيادة العليا للجيش بين أنصار المشير وأنصار الرئيس".فما شهدته الحالة المصرية لم يكن هو ذلك النزاع الكلاسيكي بين أصحاب السيف وأصحاب القلم، بل كان حرباً ضروساً داخل المؤسسة الحاكمة، بل وداخل الجيش نفسه، هذا لم يكن خلافاً بين رؤى مختلفة حول كيفية مواجهة عدو خارجي، بل كان صراعاً داخلياً على السلطة، انعكست آثاره على جاهزية الجيش للقتال، ودفع ثمنه أبناء الوطن بدمائهم وحياتهم ومستقبلهم، وأن هذا الصراع يفسر الأداء المرتبك خلال الأيام السابقة للحرب.الهزيمة المستمرة
يذهب فهمي إلى أن كتاب هيكل "الانفجار" يحفل بالإشارات عما يسميه "الحكومة الخفية" في الولايات المتحدة، وعن "ثلاثي المخابرات والسلاح والبترول" الذي يحكم العالم، وعن التواطؤ الإسرائيلي – الأميركي لاستدراج عبدالناصر والإيقاع به نتيجة تزعمه حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، مما لا شك فيه أن كل هذه العناصر والخطط والمؤامرات حقيقية ولها وجود، فهناك بالفعل قوى مؤثرة تعمل في الولايات المتحدة في الخفاء، بعيداً عن سيطرة الكونغرس ورقابة الصحافة، وهناك أيضاً تشابك عالمي في المصالح بين تجار السلاح وسماسرته... كما أنه ليس خافياً مدى التعاطف والترابط والتنسيق الذي جرى (ومازال يجري) بين الولايات المتحدة وإسرائيل... كما أنه ليس خافياً عداء القوى الاستعمارية سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة أو إسرائيل، لعبدالناصر ولجهوده في دعم حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات.على أن ما يلفت النظر هنا، هو الغياب شبه التام في سردية هيكل لوجود تنظيم داخل مصر مماثل لتلك التنظيمات السرية التي استهوته وجذبت اهتمامه على الصعيد العالمي، أقصد هنا تحديداً ذلك التنظيم المهول الذي بناه المشير عامر على مدار خمسة عشر عاماً، والذي يشار إليه أحياناً بتنظيم "الدولة داخل الدولة"، هذا التنظيم كان عماده الجيش، تلك المؤسسة التي استأثر عامر بها ومنع عبدالناصر من التدخل في شؤونها، بل استخدمها لتهديده وفرض إرادته عليه، إن الاقتتال الداخلي في الحكومة الخفية في مصر، لا في الولايات المتحدة، هو السبب الرئيسي في هزيمة 1967، هذه الحكومة الخفية التي كان يديرها المشير عبدالحكيم عامر أدت إلى وضع كارثي.يتابع خالد فهمي طرح الأسئلة قائلا: "هل معنى هذا أن عبدالحكيم عامر هو المسؤول وحده عن الهزيمة المروعة؟ بالطبع لا، عبدالناصر مسؤول أيضاً، فهو الذي اختار صديق عمره وأولاه أمور الجيش سنة 1954، أما لماذا وكيف استطاع عامر أن يبسط سلطانه على الجيش وأن يستخدمه كسلاح في وجه عبدالناصر، فذلك أيضاً كان نتيجة سياسات عبدالناصر وقراراته، فتسليم الجيش لعبدالحكيم لم يكن بسبب سواد عيونه، كما قال المشير نفسه، كما لم يكن بسبب إيمان عبدالناصر بقدرات عامر العسكرية، بل كان السبب هو ثقة ناصر أن صديق عمره بشخصيته المحبوبة داخل المؤسسة العسكرية، قادر على تأمين الجيش، أي على الحيلولة دون وقوع انقلاب عليه من داخل الجيش".وفي محاولة منه لنزع فتيل الأزمة، ألقى عبدالناصر ما يعرف بـ "بيان 30 مارس" الذي وعد فيه بإجراء بعض الإصلاحات السياسية وبعودة الديمقراطية، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، وظلت الحياة السياسية لمدة عقود مقبلة، وعلى مدار ما تبقى من حكم عبدالناصر، ثم حكمي السادات ومبارك، تدار كما أراد لها عبدالناصر، أي منحصرة بين مؤسسة الرئاسة والجيش والأجهزة الأمنية، مع ظهور مفاجئ للقضاء أو البرلمان أو الصحافة.ويتابع فهمي: "بقي الحال على ما هو عليه حتى اندلعت ثورة يناير 2011 التي هي، في المحصلة النهائية، محاولة من جانب جموع الشعب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، أن يكون لهم دور في إدارة شؤون بلدهم، وأن يكونوا رقماً في معادلة الحكم التي أبعدوا عنها، وبعد مرور أكثر من ست سنوات، لاتزال جموع الشعب تجاهد في ثورتها لتغير من طبيعة الدولة المصرية، ولتضع حداً لهزائم تلك الدولة الهيكلية والمستمرة".