تنوير : جرائم الناشرين الكبار
ستقع في حيرة شديدة: على من يجب إلقاء المسؤولية في مشكلات الكتب التي تصدر عن دور نشر كبيرة، حين يصل الأمر حد الإجرام في حق الفكر والقارئ معاً؟منذ أسابيع عدة وقعت في يدي ما يفترض أنها ترجمة لكتاب حنا آرِنت (تترجم خطأ «أرندت») «أسس التوتاليتارية». الترجمة صادرة عن دار «الساقي» البيروتية، بترجمة أنطوان أبو زيد. ولأن الكتاب باللغة الإنكليزية موجود في مكتبتي، لاحظت أن الترجمة العربية تبدو أصغر من المتوقع بكثير، والطبيعي أن تزيد الترجمة العربية عن الأصل الأجنبي بسبب ما يضاف إليها من شروح وهوامش، لكن الترجمة العربية تقع في 347 بقطع أصغر من قطع الكتاب الإنكليزي. ساورني الشك فأخذت أقارن بين الكتابين، لأكتشف أن كتاب حنا آرنت يتكون من ثلاثة أجزاء هي: معاداة السامية، والإمبريالية، والتوتاليتارية، وما صدر بالعربية عن دار «الساقي» هو الجزء الثالث فقط والذي يقع في 176 صفحة من أصل 576 صفحة. واجتهدت أن أجد طبعة للكتاب صدرت بالألمانية أو الإنكليزية تكون قد اقتصرت على الجزء الثالث فقط فلم أجد.
قدمت الدار ثلث الكتاب فقط، ولم تشر إلى ذلك في أي جزء من الترجمة التي صدرت من دون مقدمة للمترجم، مع أنهم يستخدمون عنوان الكتاب الأصلي، ويشيرون إلى الطبعات المختلفة له بالإنكليزية. الأكثر من ذلك أنك ستجد الجملة التالية تتصدر الغلاف الخلفي: «هذا الكتاب هو أحد المراجع الكلاسيكية في العلوم السياسية»، ليكتمل الإيهام بأن ما تمسك به هو الترجمة العربية الكاملة للكتاب. اعتمد ناشر هذا المرجع المهم على حالة الركود العقلي وفقدان البوصلة التي وصلت إليه الثقافة العربية، فكان مطمئناً تماماً إلى أن أحداً لن يراجع ما يفعل. تصبح الجريمة أكبر حين ترتكبها دار نشر كبيرة لها سمعتها، ويثق الناس فيها، والسؤال هنا: هل وصلنا من الركاكة وقلة الاحتراف والاستخفاف إلى هذه الحدود المضحكة؟ ثمة مشكلات أصغر مما سبق لكنها محيرة، لأنك لا تدري على من يجب إلقاء اللوم فيها. كأن يتحدث الكاتب أو المحرر عن ملاحق وضعها في آخر الكتاب، ثم لا يجد القارئ شيئاً منها. نجد ذلك في كتاب من تحرير فاروق جويدة لبعض مذكرات الموسيقار محمد عبد الوهاب تم نشرها بعد وفاته، حيث يقول جويدة في مقدمته إنه سيرفق صورة من الأوراق التي كتبها عبد الوهاب بخط يده، كوثيقة تثبت صحة ما ورد في الكتاب، ثم لن يجد القارئ هذه الأوراق في أي مكان. وفي ظني أن اللوم في هذه الحالة يقع على المحرر والناشر معا. المزعج أن الكتاب صادر كسابقه عن دار نشر كبيرة هي «الشروق» المصرية.أما الجريمة التي يشترك فيها الناشر مع المؤلف فهي إصدار كتب بعناوين ضخمة، تشير إلى مواضيع أكاديمية متخصصة كالشعرية العربية، أو دراسة الرواية، ثم تكتشف أنها تجميع لمقالات يغلب عليها الطابع الصحافي الخفيف، وأنها تخلو خلواً كاملاً من المراجع والهوامش، كأن الكاتب نبي ملهم يلقي علينا ما يوحى إليه، أو كأنه شخص منزه عن التقاليد العلمية أو أكبر منها، لدرجة أن بعض أشهر الأسماء النقدية في الثقافة العربية تترجم أفكاراً بحذافيرها من دون ذكر المصدر المأخوذ عنه، فتبدو للقارئ كأنها أفكارها. وبافتراض حسن النية، يبدو أن فكرة «شيخ العمود» لم تزل مسيطرة على وعي كثير من مفكرينا ونقادنا، الشيخ الذي لا يملك أحد مساءلته عن مصادر معلوماته، إلا إن قرر هو أن يتنازل ويذكرها تفضلاً.