أنفض عني الغبار
آخر إصدار لليلى العثمان (أنفض عني الغبار)، سيرة لحياتها بشكل مختصر، لطفولتها وصباها، مرورا بتفاصيل كتاباتها القصصية والروائية، ومدى ارتباط هذه الأعمال بواقع حياتها الخاصة والعامة، التي استلتها وولدتها من قصص وحكايات تمس طبيعة المجتمع الكويتي.بلا شك، تعد ليلى العثمان القاصة والحكاءة الأولى بالكويت والمجتمع الخليجي كله، فهي ترصد وتخزن المعلومات والمشاهد التي عاشتها في كويت الماضي، لاسيما أنها وُجدت بمرحلة زمنية في بيت تميَّز بتفرده بواقع غني وبحكايات غريبة مدهشة، كانت كنزاً غرفت منه ليلى ثراءها الأدبي الكبير. ولا أدري إن كانت هذه الحياة الغنية بالتفاصيل غير المعقولة تخص حياة معظم الكويتيين في ذاك الزمن، أم أنها حالة تعتبر شبه نادرة في مجتمع الكويت ذاك؟ لأنه حين أقرأ قصصها ورواياتها لا أجد أي شيء في بيتنا يماثل واقع حياتهم، رغم أننا عشنا في بلد واحد، وتقريبا في وقت واحد، لكن الاختلاف كبير وواسع بيننا وبينهم.
سيرة حياة عميقة وثرية مليئة بتفاصيل مشاهد سريالية غريبة مدهشة، كتبتها ليلى بصراحة، وبصدق يغزو القلب مباشرة، وخاصة بالربع الأول من السيرة، التي أسميتها عذابات ليلى العثمان. حقيقة هي عذابات مؤلمة لا يتصورها أي أحد يعرف ليلى، سليلة بيت الخير والنعمة، ووالدها التاجر الكبير، أنها عانت الجوع والحرمان والأذى في طفولتها، رغم ثراء والدها، هذه الطفولة المؤلمة خلقت موهبتها، عاشت بلا حنان أمها التي تزوجت رجلاً آخر ملأ طفولتها بالتعذيب، وبين زوجة والدها، التي تفننت بأشكال التنكيل بها. وهذه مقتطفات منوَّعة اخترتها لتعطي القارئ صورة عن طفولتها...أول فقرة تبيِّن لحظة خروجها من بيت أمها: "خرجت من بيتها، ولا أذكر إن كانت بكت أو طبعت قبلة الوداع على وجنتي، ربما خوفا من زوجها، وكنت بانتظار بيت أبي، الذي حسبت أن فيه حناناً يعوضني عن حنان أمي، الذي لم أتذوق منه شيئاً. استلت يدي من ماكينة خياطتها بكرة خيط أبيض، ظللت لزمن أفل الخيط، ثم ألفه ثانية، حتى اسود لونه، هل كان ذلك الخيط هو خيط حياتي؟".مشهد سينمائي عميق يصلح لافتتاح الفيلم كله، وهذا مشهد آخر: "كرهونا، لأنهم كرهوا أمي، التي أحبها أبي وميَّزها، ولأننا أخذنا من جمالها وأنا بالذات لون بشرتها البيضاء وشعرها الأشقر، ما أثار غيرة ابنة أخي السمراء، وحتى ترضي زوجة أخي ابنتها، قامت بقص جدائلي وإلقائها في النار أمام عيني. ولكي تتخلص من بياض لوني صارت كل يوم تصلبني تحت أشعة الشمس التي تثقب حرارتها رأسي، فأغرق بعرقي وأعطش، لكنني لا أسود". "صرنا أربع خادمات في البيت. ألقوا علينا بكل أثقاله رغم سنواتنا القليلة، نقوم بغسل الملابس بصابونة الديك، ونطحن القمح بالرحى، ونخض اللبن في القربة الجلدية، حتى يتكوم الزبد الذي لا نذوق منه شيئا".مشاهد التعذيب وأشكال الضرب والعض والتنكيل لا يتصورها عقل، وهذا مقتطف غاية في ابتكار القسوة: "أهملونا، وتولت أختي سهام أمورنا، لكنها لا تجرؤ على أن تفعل غير ما يريدون، وكانت أحكامهم قاسية. لن يسمحوا لها أن تغسل شعورنا، إلا مرة في الشهر، حتى تقملنا، فصارت أختي تسرق من وقت عملها، لتفلي شعرنا وتنظفه. أذكر ذات مرة كيف قامت زوجة أخي بجمع قمل ابنتها وذرته في شعرنا".حياة ليلى العثمان غنية وثرية استطاعت أن تنهل منها مجموعاتها القصصية ورواياتها، وكلها أعمال سردية تولدت من واقع حياتها المعاشة، سواء داخل جدران البيوت الثلاثة التي تنقلت بينها وخبرت فيها مناطق متعددة من الكويت، مثل: المرقاب والجبلة والجهراء والنقرة، ولكل من هذه المناطق تفاصيل حياة مختلفة انعكست على أعمالها، وطريقة الحياة بهذه البيوت في غاية الغرابة، ففيها عدد كبير من الضراير وأولادهم وأقربائهم والإخوة والأخوات وأزواجهم، هذا عدا أنها بيوت مفتوحة للدلالات ولضاربات الودع والحجامات والمولدات والمرضعات وخبازات الخبز وضاربات الهريس وبائعات الدهن واللبن والحفافات والخياطات ومجدلات الشعر وراويات القصص والحكايات، عالم نسائي مليء بالنميمة وتنقل الأخبار والبيع والشراء وقضاء الحاجات النسائية المختلفة. عالم لم يعد له أي أثر في عالمنا الحالي، عالم سحري واقعي اختفى، ليلى وحدها ملكت أسراره ومفاتيحه.