هل الإنسان شرير بطبعه؟
في منتصف ليلة العاشر من ديسمبر سنة 1948 في إحدى ضواحي باريس، صدر "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الوثيقة الإنسانية الأكثر أهمية في تاريخ البشرية، وصارت هي المعيار الذي يفترض أن تلتزم به الدول للحفاظ على كرامات البشر، دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو اللغة أو الأصل أو اللون أو غير ذلك. لم يستعجل كاتبو "الإعلان" إصداره، فقد استغرق نقاشه أكثر من 3 سنوات. وعلى عكس ما هو سائد، بأنه يمثل أجندة الدول الكبرى، بذلت الدول الكبرى جهوداً مضنية لمنع صدوره، وعندما فشلت في ذلك أصرت على أن يكون إعلاناً لا اتفاقية. فالإعلان صدر "رغماً عن" لا "بدعم من" الدول الكبرى.كان العالم حينها قد خرج للتو من حرب عالمية طاحنة، طفت فيها على السطح أسوأ ما في البشر من أشكال القسوة والعنصرية، والتصفية الجسدية، رافقها خطاب تمييزي عنصري تسوده الكراهية وتحيط به النظرة الدونية للآخر، كإحاطة الأسوار بالمعصم. كانت تلك القيم الكارهة للحياة قد دشنتها في محيط غربي، كالنازية والفاشية، كان الظن بأنها قد ودعتها إلى غير رجعة، فراح جراء ذلك أكثر من 70 مليون إنسان.
وعلى الرغم من أن المشاركة العربية والإسلامية كانت جيدة عدداً وإسهاماً، حين كان أعضاء الأمم المتحدة لا يتجاوزون 58 دولة، فإن الثقافة السائدة عندنا بأن "الإعلان" ليس إلا مؤامرة غربية، في حين كانت تلك الدول الكبرى، سواء أميركا أو بريطانيا أو فرنسا، ترزح تحت ممارسات عنصرية لا حدود لها، وعبودية ما بعدها عبودية. على العكس من ذلك كانت الدول الصغيرة وبالذات من أميركا اللاتينية، وفي مقدمتها تشيلي وكوبا وبنما، ولبنان، تلعب دوراً محورياً، في بلورة فكرة الإنسان الحر، والدفع بها إلى الفضاء الدولي.كان السؤال المحير بالنسبة لي كيف لدول تمارس العنصرية والعبودية أن تدعم صدور إعلان يعلي من قيمة البشر وكرامتهم؟ درست ذلك بعمق ونشرت أكثر من دراسة، كان أبرزها دراسة "هل كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صناعة غربية؟". ومع ذلك مازال الكثيرون من بيننا يجهلون ذلك، ويصرون على إعطاء الغرب مجداً لا يستحقه.ومع أن عمر "الإعلان" الآن قد بلغ 69 عاماً، إلا أن الممارسة على الأرض، يندى لها الجبين، في زمن تجاوز فيه عدد اللاجئين 60 مليون إنسان. فعلى الرغم من زيادة الوعي، وتطور آليات الحماية لحقوق البشر، فإن انتهاك كرامة الناس، والدوس عليها، على حساب المساواة والعدالة، مازالت هي الممارسة السائدة، ويبدو أننا سنستمر في ذلك على المدى المنظور. لم تكن هناك أوهام قبل 69 عاماً في فعالية الوثائق الدولية في تحقيق الإنسانية على الأرض، فالمخاض كان سياسياً بامتياز، ولربما جاء بمنزلة رفع عتب، عن مجازر حروب كبرى، ارتكبتها دول كبرى، ومن ثم مسحت سيوف تقطر دم أبرياء، بخرق بالية، لا تسمن ولا تغني من جوع. مازلنا كما يبدو نعايش نفس المأساة، هذه المرة تشترك فيها دول كبرى وصغرى وجماعات مسلحة على حد سواء. قد يأتي يوم ما يكون فيه العالم أكثر إنسانية، أما متى فذلك في علم الغيب. ويبقى عزاؤنا، وأملنا، في كم كبير من البشر، من كل الملل والنحل، ومن كل حدب وصوب، يخلصون في انتصارهم للإنسان وكرامته دون تمييز. ولم لا؟ لابد من زرع الأمل في وجه الألم.