بيتي له بابان
حين أتصفح ما تقذف به المطابع من مجموعات شعرية في أيامنا هذه، فإنني غالباً ما أتوجس من تضييع الوقت في إصدارات ليس لها مرجعية من ثقافة أو امتداد عمر، إلا ما استطاع أن يقنعني بعكس ذلك. والاقتناع أو عدم الاقتناع عادة ما يأتي بعد تقليب الصفحات الأولى، أو أحياناً إعطاء فرصة أكبر بالتوغل إلى ما وراء الصفحات الأولى. لكن حين يطالعك إصدار شعري لاسم تقرأ له لأول مرة، ثم تجد في سيرة الشاعر الذاتية ما يشي بمرجعية ثقافية وعلمية راسخة، فإن مساحة التأني والصبر على القراءة لابد أن تتسع.في مجموعة فاطمة قنديل الشعرية (بيتي له بابان)، حرصت الشاعرة على تزويد القارئ بسيرتها الذاتية في نهاية الإصدار. وهي سيرة تناور حول جهود الشاعرة بالمؤسسات الثقافية، وخاصة في مجال الترجمة والتحرير وكتابة المقالات والدراسات، وحضور المؤتمرات، إلى جانب التدريس الجامعي والمشاركة في الموسوعات الأدبية والنقدية. ثم هناك ثبت بنتاجها الشعري الذي يقع في خمس مجموعات عدا المجموعة الأخيرة (بيتي له بابان) التي نحن بصددها. الأمر الآخر المهم في هذا المقام، هو ارتباطها الأصيل بالترجمة، أي انفتاحها، من خلال الشغف الذي تحوَّل إلى مهنة على اللغات، وما تقترحه هذه اللغات من تناصّ لامتناهٍ مع الثقافات الإنسانية في أهم تجلياتها، وهي الكتابة الأدبية. ولعل هذه الخلفية الثرية هي ما تستدرج القارئ إلى الإصدار، ومحاولة اكتشافه بروية.
أول ما يباغتك في المجموعة التي صدرت حديثاً عام 2017، هو اللغة الصادمة الأقرب إلى الخشونة والذكورة. لغة تتناصّ مع عالم بهذه النوعية، يعاملك بقسوة، ويقتلك بدم بارد، من خلال مجرياته وروتينه الذي يفرغك من إنسانيتك، ويحولك إلى مجرَّد شيء قابل للاستهلاك: "ليس هناك ما يدعو على الإطلاق لأن تصبح أيامي جريدة يومية / يطل نصفها كل صباح من تحت عقب الباب / ليس هناك ما يدعو على الإطلاق أن أسحبها ثم ألقيها جانباً / لأنني قرأت الصحف كلها على الإنترنت / ليس هناك ما يدعو لأن أكون موجودة في هذه اللحظة / وأن يُغرق الآخرون رأسي في دلوٍ عميق / ثم يخرجوها لأعترف: أن تلك كانت دوماً حياتي". إذن هي الحياة التي تُشوّه وتُبرمَج رغماً عنك، كأن العالم لا يدور إلا ليبهظك كينونتك، ويجعل فارغاً إلا من الغثاثات. وإن كان إليوت يقول في قصيدته إن الحياة تُقاس بملاعق القهوة، فهي عند فاطمة قنديل تقاس برواسب قهوة أكثر كثافة من القهوة الإنكليزية: "كان (بروفروك) والعهدة على إليوت يقيس حياته بملاعق القهوة / وهذا أمر لا يخصني على الإطلاق / حتى وإن كانت قصيدته عظيمة / فقهوته الإنكليزية لا تترك ذلك الراسب الثقيل / ذا النكهة الداكنة / الذي أقيس به حياتي". هكذا تدير الشاعرة حواراتها مع حياة تكرّس - في النهاية – الوحدة والعزلة وسوء الفهم، وكلها تقود قُدماً إلى معاقرة الألم والقبض عليه متلبساً: "إييه... وأخيراً اصطدتُ الألم / وهأنذا أدخن وأتأمله إذ يجلس أمامي موثق القدمين واليدين / وعلى فمه شريط لاصق". وحين يقدّم الحب نفسه كمسكن جميل للألم والوحدة، تجده الشاعرة حباً خضع لعمليات قصقصة وتحوير ففقد براءته وجوهره: "وكنتُ دائماً ذلك الكلب النائم أمام بيته / وحين يأتي الحب / ينبح في وجهه / ذلك الكلب الذي قصوا ذيله / كي يبدو جميلاً". أو تجده حباً آيلاً للاضمحلال، بعد أن يحرث كفيها وجعاً: "وحين قال لي وداعاً لم أصافحه / كانت كفي خشنة / وكانت شقوقها ممتلئة بالطين / ذلك الطين الناشف الخادش / الذي تبقى من كل الجذور التي دأبتُ على اقتلاعها".تطرح فاطمة قنديل الكتابة حلاً لأوجاع الحياة وتشوهاتها، لكنها رغم ذلك تنبري للاعتراف بأنها الداء والدواء، وأن الشفاء مشكوك في أمره، لأن فعل الكتابة أشبه بمعاقرة كأس في حانة فارغة ليس فيها غيرك وغير موتك الوشيك الذي لن يهمّ أحداً. "أود أن أكتب لا لشيء إلا لأحرر ذراعي من ذراعه... هي محض لحظة أستغرق فيها في الكلمات وأفيق/ فلا أجد أحداً". "لستُ فرجينيا وولف/ وستجدينني أيتها الكتابة جالسة على الصخرة نفسها / المربوطة في قدميها/ بعد أن حملتها إلى الشاطئ / أبتسم ببلاهة / كأي ناجٍ من الغرق / يتأمل الحياة / محض ماء / يطفحُ من رئتيه". يمكن القول في مقام الاستشراف العام لتجربتها، إن فاطمة قنديل بمرجعيتها الثقافية، وحسّها الإنساني العميق، وآرائها في الحياة والحب والكتابة من منظور شعري، تمثل المشهد الأكثر حداثة في الشعر، وإن القراءة في هذا اللون من التجارب الأسلوبية المغايرة تحتاج إلى التأني ومساحة من الفهم.