خارج السرب: فورمات فلسطين المعاصرة
في تعريف التاريخ أميل دوما إلى نظرية تقول إن "التاريخ ليس هو الحوادث إنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة"، وفعلا التاريخ ليس روزنامة مجردة تحدد أطرها فقط شواطئ وقت الأحداث، بل لا بد لمن أراد فهمه أن يغوص في لجة معاني ما حدث، وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ قصية فلسطين، كمثال، لا ينفع معها معرفة السياق التاريخي فقط، كتوقيت عقد المؤتمر الصهيوني الأول ومكانه في بازل بسويسرا، ووعد بلفور وتقسيم 1947، وما بعده من نكسة 1967، وسلام "كامب ديفيد" وتابعه أوسلو وغيرها، هذه تواريخ مهمة لكنها تبعدك أكثر وأكثر عن أكبر خلل عقلي أصاب العالم المعاصر الذي يقوم كما يدّعي على مبدأ العقلانية وحدها، فمعاني الأحداث ذاتها ستصيب أكبر باحث في التاريخ بصداع نصفي يمسك بعده بعصا المنطق من وسطها ويكسرها على ركبتيه!يقول لنا التاريخ إن أوروبا قررت إيجاد وطن قومي ليهود العالم، وسبب ذلك اضطهادهم كقومية وعلى مر العصور في إسبانيا وإنكلترا وفرنسا، وأخيراً ألمانيا، المنطق يقول إن هذا الوطن القومي يجب أن يكون أوروبيا، فالذنب هنا يقع على عاتق هذه البلاد، ويجب أن تكفر عنه من حر "أراضيها"، ولكن أوروبا هانم اختارت لتكفير ذنبها أرضا بعيدة تسمى فلسطين العربية، فنحرتها على مذبح ترضياتها!
وليت الجنون توقف هنا فقط عند نقطة اختيار مكان التكفير، بل تعداه إلى هذيان مبرراته أيضا، فما هو مطروح "عيني عينك" وبكل "بجاحة وقلة حياء" أن سبب اختيار فلسطين تحديدا هو نبوءة توراتية كتبت قبل 2500 عام! تخيلوا فقط أن "يفرمت" العالم ذاته كما حدث مع القضية الفلسطينية، ويرجع بنا لوعود 2000 ما قبل الميلاد! فيطالب السلت في إنكلترا بطرد قبائل الإنجل والساكسون ومن والاهم من النورد والفايكنغ فقط لأن أحد نصوص الدرويد-كهان الديانة السلتية القديمة "تنبأت بأن إنكلترا هي وعد الإله الوثني السلتي تيوتانيس، وأن لندن زهرة عقيدتهم، ومن جاورها موطن أجدادهم منذ ألفي عام. وتخيلوا أيضا أن يطالب سكان أميركا الأصليون– الهنود الحمر- بالولايات المتحدة لأن شامانا منهم، قال يوما لأحفاده: أرضك يا "أحمر الخدين" من مانهاتن إلى نيو مكسيكو! وقس على ذلك وضع الروس مع التتار، ووضع الإيطاليين الرومان مع الجرمان، ووضع أهل غاليا في فرنسا مع الفرنجة أو الفرانك و... و... إلخ! وتخيلوا أخيرا أن يكون تحقيق هذه الوعود السفسطائية بدعم كامل من أساطيل العالم وجيوشه وسياساته!! بلا شك هذا جنون مطبق، حتى إن حاول الغرب وضع أطنان مكياج العقلانية على ملامحه القبيحة، وعلى فكرة الفورمات قبحها الله لي معها دوما تجارب مؤسفة منقوشة في ذاكرتي، فما زلت أذكر عندما أصاب عطل "لابتوبي" الذي استخدمته أربع سنوات، ووضعت فيه زهرة جهدي وصوري وملفاتي ليقول لي فني الكمبيوتر: لازم فورمات بابا فوافقت متحسرا على ضياع تاريخ أربع سنوات "هراء منثورا"! أربع سنوات كانت تكفي للتحسر والحزن أمام جبروت الفرمتة فكيف يطالب العالم المعاصر وبكل بساطة بفورمات تمحو تاريخ 1400 عام من ذاكرة الشعب الفلسطيني؟!