خارج القبر!
لم يغيّبك الموت يا أبا أصيل، بل أنت من غيّبه!أنت من واريته الثرى؛ بينما كنّا نهيل التراب في عمق تلك الفتحة المستطيلة الضيقة، أنت لم تكن داخلها!
البعض كان يخلط الماء بملح الدمع لصنع "لبنة" توضع في القبر، وآخرون يُضمّخون التراب بعطر الحزن ويطرزونه بآهات الفقد، في حين أن آخرين يصنعون من قلوبهم وسادة تقي رأسك صلابة الحجر الذي أُسند رأسك عليه وقساوته، إلا أنك أصلاً لم تكن في القبر. كنت أنا أحد الذين كانوا على باب القبر الذي أعدّ لك، بعدما أنزلوا حملهم من على أكتافهم ووضعوه فيه. لم تكن حينها في تلك الحفرة، كنتَ موزّعا في كل الذين تزاحموا حول ذلك القبر الذي شُبّه لنا أنك بداخله، وفي كل شخص عاشك وعشت معه لحظة هاربة إلى قلبه، وكل الذين لحُسن حظهم التقوك، ولو صدفة، وأولئك الذين خصهم الله بمعرفتك عن قرب، وأثريت إنسانيتهم بفائض من جمال إنسانيتك، وكل الذين استطعموا مسحة قلبك الحانية على رؤوسهم الحاسرة، وكل الذين نادموك خمرة الفكر ولذة التسامي، وكل الذين سال في دمائهم توت أغانيك، وتجلّوا في سماوات أخرى من صُنع يديك، والذين وقفوا بباب خصالك وأفضالك -ذات شح- ليملأوا أردانهم منك بذهب الخلق الكريم. لم تكن في ذلك القبر، بل كنت متفرقا ومتفرداً في ذاكرتنا وذكرياتنا، فلكل منا قصته الخاصة معك، وذكراه الفريدة، حتى أولئك الذين لم تلتقيهم وجهاً لوجه. وبينما أنت تتجول في ذكرياتنا كانت ذاكرتنا تمتلئ بالمطر، ولقد شعرت بك جيداً حين هطلت بي، واتخذت مقعداً في وسط ذاكرتي الوارفة بك، وأخذت تتأمل كل زاوية فيها، وكل عشبة ووردة، وكل قطعة حجر مزخرفة، والنوافير الصغيرة الموزعة في أرجائها، والتي تدفّق ماؤها ما إن فتحت بوابة ذاكرتي الخشبية تلك ودخلت، وإذ بفضائها فجأة يتزيّن بالعصافير والتغاريد، والحمام الذي يحمل في مناقيره مناديل ملوّنة موشاه بالهديل. عادت الحياة فجأة لذلك المكان، فيما أنت تراقب ذلك من على مقعدك بابتسامة صافية أعرفها جيداً. كانت ذاكرتي تورق بالأماكن والأوقات التي جمعتني بك، واللقاءات العديدة لنا معاً بصحبة آخرين، وأخرى اقتصرت على كلينا، وأحاديث ذات شجون تبادلناها معاً كان حصادها قناديل أضاءت في دربي عتمة هنا، أو أزاحت عن خطوتي عثرة هناك. ليالٍ حِكْنا من ظلمتها معاً قمراً منيراً، بفضل نورك، وأغنية وحيدة عملنا عليها معاً، وذلك الموقف عندما هاتفتني في ساعة متأخرة من الليل وقلت لي إذا لم تك قريبا من حدود النوم تعالَ نسهر معاً، فأنا لوحدي، وقمت من السرير وأبدلت ملابسي على عَجل، وخرجت، فلم أجد سيارتي التي سرقت من أمام البيت، فاتصلت بك معتذراً وشارحاً الموقف، لأفاجأ بسائقك في اليوم التالي أمام منزلي بسيارة أخرى بديلة لسيارتي المسروقة. مواقف وأحداث استعادت بريقها حينما كنت واقفاً على القبر، وكأنما ذاكرتي تولد بك من جديد، أينعت في كل من عرفك ذكرياته الخاصة معك حينها، وأيقنت حينها أنك لم تكن في القبر، إنما خارجه.