«السينما تأتيك»!
يمكن للمتابع الفطن، الذي يرصد «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، في دوراته الأخيرة، أن يُدرك أن إدارته باتت تملك قدرة فائقة، منذ الدورة العاشرة، على اختيار الشعار الذي يواكب المتغيرات الاجتماعية، ويلائم التطورات الاقتصادية، ويُرسي رسائل سينمائية. ففي الدورة العاشرة (6 - 14 ديسمبر 2013)، كان الشعار «10 أعوام من الشغف»، وفي الدورة الحادية عشرة (10 – 17 ديسمبر 2014)، كان «السينما حياتي»، بينما رفعت الدورة الثالثة عشرة (7 – 14 ديسمبر 2016 ) شعار «جهز نفسك»، ومع انطلاق الدورة الرابعة عشرة (6 – 13 ديسمبر 2017) أطلقت إدارة المهرجان شعار «السينما تأتيك»، الذي اتفق كثيرون معه شكلاً ومضموناً، حيث أتاح فرصة ذهبية لمحبي وعاشقي السينما للتعاطي مع نوعية من الأفلام ما كان لها أن تتوافر بقية أشهر العام، التي تكتظ صالات العرض السينمائي فيها بالأفلام الأميركية وحدها، ولا يكاد المتابع يحظى بفرصة مشاهدة فيلم ينتمي إلى مدرسة سينمائية، غير «الهوليوودية»، إلا إذا ساقته قدماه إلى مركز ثقافي روسي أو إسباني أو إيطالي أو هندي في الغالب!عبر شعار «السينما تأتيك» أمكن لجمهور «مهرجان دبي السينمائي الدولي» أن يُشاهد العرض العالمي الأول لفيلم إماراتي متمرد يحمل عنوان «وضوء» (22 دقيقة)، يُعد بمثابة مفاجأة مُذهلة، وغير متوقعة. فالفيلم الذي كتبه أحمد سالمين، وأخرجه وأنتجه أحمد حسن أحمد، امتلك رؤية جريئة لإشكالية الحلال والحرام في مجتمعاتنا العربية، حيث الشقيقة (سميرة الوهيبي) التي تُكفر شقيقها (سالم العيان)، لأنه يُهدر وقته في الغناء والرقص والطبل، فيما يتهمها بأنها «عندما تُغسل الأموات فإنها تعيش معهم بأكثر مما تعيش الحياة» وأنها «نذرت نفسها للموت بينما الحياة حق للبشر أيضاً». وفي أحد أهم مشاهد الفيلم يحتدم الحوار بينهما، وينتهي بالشقيقة، وقد أقامت ستاراً بينهما، في إيحاء بالقطيعة، وتوقف لغة الحوار بينهما، بوصفه «كافراً»!
أما الفيلم اللبناني «متوسط» (7 دقائق) للمخرج طلال خوري فأغنانا عن مئات المقالات التي تبحث في الحقيقة العلمية، التي تقول إن الكائن البشري يحتاج بين 4 إلى 6 دقائق ليغرق في البحر، فاللقطات الهادرة (المخرج هو المصور)، كموج البحر، والموسيقى الصاخبة (خيام علامي)، التي تثير الرعب، والمونتاج المجنون (مكرم حلبي)، كثفت الجرعة، وجسدت الرعب، وهي الحال التي انقلبت تماماً في فيلم لبناني آخر بعنوان «زيارة الرئيس» (19 دقيقة)، فمنذ الوهلة الأولى تظنّ أن العمل مقتبس عن مسرحية «زيارة السيدة العجوز» للكاتب السويسري الألماني فريدريتش دورينمات، أو مأخوذ – على أكثر تقدير - عن الفيلم المصري «زيارة السيد الرئيس» للمخرج منير راضي، حيث البلدة/ القرية التي يُشاع فيها خبر الزيارة الرسمية للرئيس/ المسؤول رفيع القامة والمكانة، وتتجمل البلدة لاستقباله، ويتأهب الجميع لنفاقه، وينتهي الأمر بالجميع «في انتظار جودو». لكن المخرج سيريل عريس، يفاجئنا بفيلم كوميدي، يحمل الكثير من الدلالات السياسية، على رأسها اختيار أن يكون البطل (الممثل فؤاد يمين) صاحب مصنع للصابون تتصدر واجهته لوحة مكتوب عليها «مُنظف الضمير»، وأن يبرر «الرئيس» سبب الزيارة بأنه في صدد «حملة تطهير واسعة»، فالمخرج، الذي كتب السيناريو وقام بالمونتاج مع مونيا عقل، يملك الكثير من خفة الظل، والسخرية اللاذعة، الأمر الذي يؤهله لأن يكون واحداً من مخرجي الأفلام الكوميدية الموهوبين بينما تستطيع المخرجة المصرية نهى عادل أن تضمن لنفسها مكاناً بين مخرجي الواقعية الاجتماعية بفيلمها «مارشيدير» (14 دقيقة)، الذي يناهض النظرة الذكورية للمجتمع، ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في وضعية المرأة في مجتمعاتنا العربية، لكنها تفعل هذا باقتدار واضح، على صعيدي الرؤية الفكرية واللغة السينمائية، فالفيلم يبدأ بتلاوة قرآنية للشيخ محمد رفعت، وشارع اتجاه واحد، ولافتة مكتوب عليها «ممنوع»، ونوافذ لا تفتح أبواب الرزق، بل تدفع الناس إلى تقمص دور «المتفرج السلبي»، كالقطط والكلاب، التي تتابع الصدام بين «ذكر» متعجرف يرى أن من حقه مخالفة القانون، وامرأة ترفض تكريس الصورة الذهنية للأنثى مهيضة الجناح، التي ينبغي أن تتراجع، بسيارتها ومبادئها، ليتقدم الرجل، ويختال بنفسه، وبتفاصيل موحية (نراها وهي تستمع إلى فيروز تغني «زوروني كل سنة مرة» ثم تستعرض صور ذكرياتها، وتتوقف عند صورة مكتوب عليها «يوم سعيد» فندرك حجم معاناتها مع الوحدة). ومن خلال تكاثر الرجال لمناصرة «الرجل ظالماً أو مظلوماً»، وكم السباب الذي يطول المرأة، لمجرد أنها تشبثت بحقها، تطرح المخرجة الشابة كلمتها، وتكشف عن موهبتها... و{السينما تأتيك».