القرار المتهور
أثبتت مسيرات الغضب التي اجتاحت العواصم والمدن العربية والإسلامية عقب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أن القدس في قلب كل المسلمين، وتسكن في الوجدان، وتسري في الدماء، ولا يمكن قبول قرارات متهورة ممن لا يملكون ويمنحون من لا يستحقون؛ لأن القدس ستظل العاصمة الأبدية لفلسطين، ولا يمكن أن تغتصب أرضها كما حدث من قبل، شاء من شاء وأبى من أبى. لقد كانت انتفاضة الشعوب نصرة للقدس أقوى بكثير من ردة فعل الكثير من الحكام في دولنا العربية والإسلامية والذين لم يغادورا حتى الآن مربع العجز، واقتصرت اجتماعاتهم وبياناتهم على الشجب والإدانة والاستنكار، فلم يسجل أن دولة عربية أو إسلامية طردت السفير الأميركي احتجاجاً على العدوان على القدس ومقدسات الأمة، ولم تقدم الدول التي تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع الكيان الصهيوني على قطع علاقاتها أو سحب سفرائها.
ولعل هذا العجز والهوان في واقع أمتنا العربية والإسلامية هو الذي أغرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ودفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار الذي لم يجرؤ الرؤساء الأميركيون السابقون عليه، بخطف القدس عاصمة وإهدائها للصهاينة ضارباً عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، وخارقاً ميثاق الأمم المتحدة، ومتسبباً في إدخال المنطقة التي تعاني الإرهاب وعدم الاستقرار في مرحلة أكثر توتراً، حيث يدعم هذا القرار توجهات المتطرفين وينهي عملية السلام التي كان يأمل الكثيرون تحقيقها.وقد بنى قرار ترامب حساباته على أن الفلسطينيين سيبتعدون عن طاولة المفاوضات فترة، ولكنهم لن يلبثوا أن يعودوا إليها ضمن الوقائع الجديدة كما فعلوا كل مرة، وهو ما يعني أن الرهان سيكون عملياً على إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، ومدى قدرته على الصمود في وجه الضغوط الأميركية، والإصرار على موقفه، بأن الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً مؤهلاً لرعاية العملية السلمية والبحث في خيارات أخرى بعد ثبوت فشل خيار المفاوضات.وفي الحقيقة نحن نثق بقدرة الشعب الفلسطيني على الدفاع عن القدس، فقد تعلمنا منذ وعد بلفور 1917 أنه لا سبيل أمام هذا الشعب الأبي إلا المقاومة بالاعتماد على النفس وتسخير كل طاقاته للتصدي للعدو الصهيوني ولحلفائه، فهذا الشعب كتب عليه أن يبقى حاملا سيفه، ويصهل وحده في الميدان، وكتب عليه أن يكون رأس الحربة في الدفاع عن الأمة ومقدساتها، وهذا الشعب بإذن الله تعالى سيحبط كيد المتآمرين ويرد مكرهم جميعاً إلى نحورهم، فللقدس والأقصى الله، ثم لها رجال سيعيدون الأمجاد والتاريخ من جديد كما ضحى المسلمون بدمائهم، والتاريخ يشهد على ذلك.