بشأن الجاذبيتين: الذاكرة والمخيلة (2 - 4)
"كامل"، بطل رواية "حبات الرمل... حبات المطر" لفلاح رحيم، بقي نازفَ الجرح، بسبب عجزه عن إعلان حبه لمن يحب طوال سنوات الجامعة الأربع، وعجزه عن توفير توازن مقنع بين انتسابه للحزب، وبين حرية فكره التي يتطلع لها، بين الحياة التي هي خلطة بالغة التعقيد من الخير والشر، يتعلمها من العائلة، الأصدقاء، الجنود في عفويتهم السوداء/ البيضاء، وبين العقيدة اليقينية التي يجسِّدها المسؤولون الحزبيون. إنه يحدق في الخلخلة حائراً، ولا يملك أن يتخذ القرار. وأعتقد أن السبب كامن في اضطراب البصيرة الذي يمكن أن يُريه بوضوح أن استسلامه لثقافته النقدية الغربية هي السبب. فبدل أن تكون هذه الثقافة مصدر معرفة يدخل مصفاة وعيه المحكومة بزمانه ومكانه، كما حدث مع أجيال النهضة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، صارت معياراً متعالياً لوعيه. هذه الثقافة التي ولدت ونشأت ونضجت وماتت، ربما، في تربة حضارة الغرب التي لا شأن لها بكامل، ولا شأن له بها. هناك إضاءة أمل تشرق في وعي البطل أحياناً، بسبب العلاقة القلقة مع نفسه. "عالمي الممزق بالأسئلة ودواعي القلق والطموحات المتنافرة التي يقتل بعضها بعضاً". (ص212)
وأحيانا تكون الإضاءة شائبة بشأن انقسام عالمه: "بدأت أميز بين حقلين في حياتي، هما: فضاء التلقائية الذي لا يخضع لأحكام العقل، وهو ينتهي بي أينما وليت وجهي إلى هدى، وحيز خدمة الفضيلة والعدل الذي لا يهدأ ضميري إلا إذا حشرت نفسي في ممراته الضيقة الخالية من كل أثر لهدى. كان يثير قلقي أن يكون الحقلان متباعدين إلى هذا الحد، بل هناك ما يشبه الانقطاع التام بينهما". (ص174) قلت إضاءة شائبة، لأن "أحكام العقل" هنا هي "أحكام العقل الغربي"، وليس "العقل" الذي نضج عبر مصفاة ثقافة وخبرة شخصيتين. وهذا ما تشي به الرواية في كل حين، وما لا يريد بطل الرواية أن يعترف به. لنتابع هذه الشواهد: "لكن محسن بدأ يقرأ بعض الكتب الماركسية، أقنعني دون عناء بأن للوجود كما للشعر وللتنويم المغناطيسي قوانين لا فكاك منها، وهي مهما بدت جافة وصعبة المآل واجبة الطاعة..." (ص39)، "وهي أمور (يعني الزواج وإنجاب الأطفال والنجاح) لا يعيرها مُشرق أي اهتمام. أعتقد أني كنت أقرب الطلبة إليه، وربما كان السبب ما أظهر جان بول سارتر في السنوات الأخيرة من ميل إلى الماركسية..." (ص64)، "فعقيدتك القلق الوجودي وهي لا تختلف عن العقائد الأخرى التي نحاول أن نفهم بها العالم". (ص65)، "لكن هناك سجناء المستقبل... سأسميهم العدميين. والعدمية من الأمراض الخطيرة التي ظل يعاني منها الفكر العالمي منذ صيحات نيتشه اليائسة في القرن التاسع عشر". (ص72)، "المنتعشة أبداً بصفاء وجهها ومزاجها، والتي تذكر كل من يراها بحقائق الصراع الطبقي الفكتورية النموذجية التي ألهمت ماركس نظريته..." (ص84)، "عجبتُ للطريقة التي قرأ بها القصيدة. قلت: - هل تعتقد أنها قصيدة حب؟ - هنالك قول لأنطونيو غرامشي مفاده أن الحياة بدون حب أشبه برياضيات مجردة جافة". (ص96) "- متْصيرِلْكم ﭽارة. لكني سأحاول أن أوضح لك علّك تفهم مشكلتي. أنا مُصاب بعلة المركيز دي صاد التي حللتها بعمق سيمون دي بوفوار". (ص132)، "هل أنتِ علْويّة؟ قلتُ لا فقالت لي ولصديقاتي هذا الوجه الوضاح لا يليق إلا بعلوية مباركة. شكرتُها بعمق... ضحكت أنا أيضاً وقلت معلقاً: - لا تلوميها. قرأت ذات مرة قصة سوفيتية عن رجل ينتظر مولوده الأول خارج القاعة قلقاً... قامت هدى دون أن تعلق". (ص173)، "حدثني شهاب عن قراءته لفلسفة هيغل. كان حديثه عميقاً مؤثراً تركز على مساعي الذات إلى تحقيق وعي بذاتها ينفتح على ما في العالم الخارجي من سلب..." (ص187)، "إن هدى مستعدة للاستجابة وان المشكلة يلخصها قول لسنت أكزوبري". (ص 201) لن أعتبر هذه الشواهد مآخذ في رواية تمتد بمتعة وسلامة لستمئة صفحة، لأنها تنقل ما كان يحدث في حوار مثقفي تلك المرحلة حتى اليوم بصدق. إنها تسلط ضوءاً حقيقياً على مأزق البطل، أو مأزق المثقف العربي (والعراقي خاصة)، الذي انتهى في العقود الأخيرة إلى ضرب من الشيزوفرينيا الثقافية.