بشأن الجاذبيتين: الذاكرة والمخيلة (2 - 4)
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
وأحيانا تكون الإضاءة شائبة بشأن انقسام عالمه: "بدأت أميز بين حقلين في حياتي، هما: فضاء التلقائية الذي لا يخضع لأحكام العقل، وهو ينتهي بي أينما وليت وجهي إلى هدى، وحيز خدمة الفضيلة والعدل الذي لا يهدأ ضميري إلا إذا حشرت نفسي في ممراته الضيقة الخالية من كل أثر لهدى. كان يثير قلقي أن يكون الحقلان متباعدين إلى هذا الحد، بل هناك ما يشبه الانقطاع التام بينهما". (ص174) قلت إضاءة شائبة، لأن "أحكام العقل" هنا هي "أحكام العقل الغربي"، وليس "العقل" الذي نضج عبر مصفاة ثقافة وخبرة شخصيتين. وهذا ما تشي به الرواية في كل حين، وما لا يريد بطل الرواية أن يعترف به. لنتابع هذه الشواهد: "لكن محسن بدأ يقرأ بعض الكتب الماركسية، أقنعني دون عناء بأن للوجود كما للشعر وللتنويم المغناطيسي قوانين لا فكاك منها، وهي مهما بدت جافة وصعبة المآل واجبة الطاعة..." (ص39)، "وهي أمور (يعني الزواج وإنجاب الأطفال والنجاح) لا يعيرها مُشرق أي اهتمام. أعتقد أني كنت أقرب الطلبة إليه، وربما كان السبب ما أظهر جان بول سارتر في السنوات الأخيرة من ميل إلى الماركسية..." (ص64)، "فعقيدتك القلق الوجودي وهي لا تختلف عن العقائد الأخرى التي نحاول أن نفهم بها العالم". (ص65)، "لكن هناك سجناء المستقبل... سأسميهم العدميين. والعدمية من الأمراض الخطيرة التي ظل يعاني منها الفكر العالمي منذ صيحات نيتشه اليائسة في القرن التاسع عشر". (ص72)، "المنتعشة أبداً بصفاء وجهها ومزاجها، والتي تذكر كل من يراها بحقائق الصراع الطبقي الفكتورية النموذجية التي ألهمت ماركس نظريته..." (ص84)، "عجبتُ للطريقة التي قرأ بها القصيدة. قلت: - هل تعتقد أنها قصيدة حب؟ - هنالك قول لأنطونيو غرامشي مفاده أن الحياة بدون حب أشبه برياضيات مجردة جافة". (ص96) "- متْصيرِلْكم ﭽارة. لكني سأحاول أن أوضح لك علّك تفهم مشكلتي. أنا مُصاب بعلة المركيز دي صاد التي حللتها بعمق سيمون دي بوفوار". (ص132)، "هل أنتِ علْويّة؟ قلتُ لا فقالت لي ولصديقاتي هذا الوجه الوضاح لا يليق إلا بعلوية مباركة. شكرتُها بعمق... ضحكت أنا أيضاً وقلت معلقاً: - لا تلوميها. قرأت ذات مرة قصة سوفيتية عن رجل ينتظر مولوده الأول خارج القاعة قلقاً... قامت هدى دون أن تعلق". (ص173)، "حدثني شهاب عن قراءته لفلسفة هيغل. كان حديثه عميقاً مؤثراً تركز على مساعي الذات إلى تحقيق وعي بذاتها ينفتح على ما في العالم الخارجي من سلب..." (ص187)، "إن هدى مستعدة للاستجابة وان المشكلة يلخصها قول لسنت أكزوبري". (ص 201) لن أعتبر هذه الشواهد مآخذ في رواية تمتد بمتعة وسلامة لستمئة صفحة، لأنها تنقل ما كان يحدث في حوار مثقفي تلك المرحلة حتى اليوم بصدق. إنها تسلط ضوءاً حقيقياً على مأزق البطل، أو مأزق المثقف العربي (والعراقي خاصة)، الذي انتهى في العقود الأخيرة إلى ضرب من الشيزوفرينيا الثقافية.