ما قــل ودل: رعاية الصحة العامة واجب وأمن قومي
خطاب مفتوح إلى معالي وزير الصحةتحية وتقدير لشخصكم الكريم مني ومن كل وافد مقيم في هذا البلد الكريم، وتهنئة لمعاليكم بهذه الثقة الغالية التي منحك إياها صاحب السمو الأمير وأنت أهل لها، لتتبوأ مقاما رفيعا هو حمل هذه الرسالة الإنسانية باعتبارك الطبيب الأول، طبيب المرضى، مواطنين ومقيمين، مخاطبين معا بأحكام الدستور، فيما فرضه من واجبات والتزامات، وما كفله من حقوق، ولعل أول هذه الالتزامات:
مراعاة النظام العام واجب قومي فالمادة (49) من الدستور لم تقصر الالتزام بمراعاة النظام العام على المواطنين، بل جاء حكمها عاما ليسري على عمومه ومطلقا ليجري على إطلاقه فيما نصت عليه من أن "مراعاة النظام العام واحترام الآداب العامة واجب على جميع سكان الكويت".فجعلت مراعاة الصحة العامة واجبا قوميا وأمنا قوميا كذلك، فالنظام العام وفقا لما استقر عليه الفقه والقضاء في العالم كله في مدلولاته الثلاثة، هو الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة، ولأن الجميع مواطنين ومقيمين، يظلهم الدستور بهذه المظلة الوارفة من الأمن والصحة والسكينة، فقد ألزمهم الدستور جميعا بمراعاة النظام العام.لذلك سبق أن كتبت في مقالي المنشور على هذه الصفحة أن زيادة رسوم الخدمات الصحية والغلو فيها غلوا شديدا، للتخفيف من مزاحمة المقيمين للمواطنين في العلاج، وهي غاية القرار الوزاري بزيادة الرسوم كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهي انتشار الأوبئة والأمراض، فالمرض لا يفرق بين مواطن ومقيم وبين غني وفقير كما لا يفرق الموت بينهما، يقول المولى عز وجل: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً". صدق الله العظيم، فلا يجوز أن تكون، كما قيل، الحياة والصحة والمرض محل تجارب القرارات الوزارية، ونجاحها فيما حققته من هذه الغاية هو بطعم الفشل.أسباب عدم مشروعية القرار1- مخالفته للقانون رقم 25 لسنة 1981 بشأن مزاولة مهنة الطب، والذي وضع أصول مهنة الطب وأخلافياتها، فالدولة هي القدوة بالنسبة إلى هذه وتلك، ولا تنهى عن فعل وتأتي بمثله.2- مخالفة القرار للقانون رقم 1 لسنة 1998 في شأن التأمين الصحي، الذي ربط بين تفويض وزير الصحة في فرض الرسوم الصحية وبين التأمين الصحي ذاته، فأصبح هذا التأمين ودراساته الاكتوارية هي التخوم التي تقيد هذه الرسوم وتضع حدودا لها، وقد غابت الدراسات عن القرار الوزاري بفرض الرسوم، فلم تجد الوزارة بدّاً من إصدار قرار جديد بزيادة قيمة الاشتراك في التأمين الصحي، دون دراسات اكتوارية أيضا، فبدا التخبط في القرارات.3- فضلا عن مخالفة القرار للمادة الأولى من قانون التأمين الصحي والتي نصت على تقديم الخدمات الصحية مع مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية، وطبقا لفتوى الإمام الأكبر الراحل محمد عبده مفتي الديار المصرية في بداية القرن الماضي فإن المقيم له ما للمواطن وعليه ما عليه في الدولة الإسلامية، ولا يختلف أحد في أن الكويت دولة إسلامية ودينها الإسلام وفقا لأحكام المادة الأولى من الدستور، ولذلك حفل الدستور بمبدأ المساواة الذي يُظلّ الجميع في الحقوق الفطرية الطبيعية التي ولدت مع الإنسان، ومنها حق الحياة والكرامة الإنسانية والرعاية الصحية (المواد 7 و8 و15).التعاون والتراحم يقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، وقال أيضا "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"، وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، كما قال "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"، امتثالا لقوله تعالى "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى".وأين نحن من وصية جبريل للنبي كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، فالتكافل والتراحم يدعواننا إلى تفعيل فريضة الزكاة (الركن الثالث للإسلام) وإخراج النصاب الذي أمرت به الشريعة الإسلامية وجوبا لا تفضلا أو اختيارا، فضلا عن الصدقات وما أوسع أبوابها وأعظم فضائلها، وأعظم مصارف الزكاة والصدقة في إمارة الإنسانية، من تقديم الدولة الخدمات الصحية بالمجان أو برسوم رمزية لا تثقل كاهل الغالبية الساحقة من الوافدين المقيمين ذوي الدخل المحدود، فـ"الأقربون أولى المعروف".الحكم برفض الدعوى ولا ينفي المخالفات التي أثبتناها فيما تقدم وبالتفصيل في مقالاتنا المنشورة على هذه الصفحة في أعداد الجريدة الصادرة في 29 و31 أكتوبر و5 نوفمبر 2017 صدور حكم بتاريخ 24/10/2017 من الدائرة الإدرية بالمحكمة الكلية برفض الدعوى المقامة من أحد المحامين طعنا على هذا القرار، فلنا في رسول الله، صلى الله وعليه وسلم، أسوة حسنة عندما كان أول قاض في الإسلام في حديثه الشريف الذي يقول فيه: "إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطعُ لهُ قطعة من النارِ فلا يأخذها".رفض الآخرإن هذا القرار قد جانبه الصواب أيضا في إهماله للجانب الإنساني في الرعاية الصحية، وهو إرضاء نزعة رفض الآخر، فهي نشاز في نسيج المجتمع الكويتي، وإن الأصوات التي تعالت من بعض أعضاء مجلس الأمة بتأييد هذا القرار، هي أيضا تخالف هذا النسيج المتوارث بين المواطنين والمقيمين ومجتمع الأسرة الواحدة، كما جاء في استهلال المذكرة التفسيرية للدستور، فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون بروح الأسرة تربط بينهم كافة، حكاماً ومحكومين، وكان الحديث عن كل الناس لأن الجنسية كانت حديثة العهد بالكويت فصدر قانونها سنة 1959، وهو ما أكده النائب المحترم الراحل سامي المنيس عندما تصدى لأحد النواب، داخل قاعة عبدالله سالم لقول الأخير إن من يرتدي الدشداشة ينتظر دوره في المستوصفات، أما من يرتدي البنطلون فيدخل إلى الطبيب أولا، مطالبا رئيس المجلس بشطب هذه العبارات من المضبطة، لأنها ستترك رواسب في المجتمع.ثقافة زيارة المريضفنزعة رفض الآخر حتى في الرعاية الصحية هي نزعة غريبة عن ثقافة المجتمع الكويتي، في التعاون والتراحم والتي تلمسها في ثقافة زيارة المريض، تلك الثقافة النابعة من قيم دينية وأخلاقيات وتقاليد موروثة لدى العرب، والتي تغيب عن كثير من شعوب أمتنا العربية، ولكنها لا تزال جزءا من التراث الإسلامي والعربي والإنساني الذي يحافظ عليه الكويتيون، فقد لمستها بنفسي في تجربة شخصية لي، فقد كنت على موعد مع الموت في عام 2009 عندما أخطأ الطبيب وهو يجري لي "قسطرة" للقلب فجرح الأورطي، وكان الفضل بعد المولى عزو وجل لطبيب فلسطيني، هو الدكتور رياض الطرزي، الذي أنقذني من موت محقق، عندما أجرى لي جراحة دون تخدير أو تعقيم، لينقذ حياتي، وليعيد النبض إلى القلب، بعد أن توقف تماما، وأعترف للكويت بعد المولى عز وجل بهذا الفضل، وأعترف كذلك بهذا الفضل لأهلها الذين أحاطوني بكل الحب والتعاطف، بل وجدت هذا التعاطف حتى من مواطنين لا أعرفهم، ومنهم أستاذ جامعي كويتي زراني في المستشفى وأنا على فراش المرض بين يدي عزيز مقتدر، وعرفت بعد هذه الزيارة أنه يزور كل مرضى المستشفى كل يوم جمعة، ويدعو لهم بالشفاء.وفي حديث قدسي يقول المولى عز وجل "عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد كيف أعودك يارب، وأنت رب العالمين، فيقول الله عز وجل، مرض عبدي فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدتني عنده...". من رسالة حب في مقال لي نشر في عدد الجريدة الصادر في 9/11/2009.معالي الوزير إن الوافدين يأملون خيرا كثيرا في قدومك لحمل حقيبة الإنسانية ورسالتها السامية لإعادة النظر في قرار زيادة الرسوم الصحية الجائر واللا إنساني. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.