اختبار حالة الرضا عن الذات في عام 2018
تاريخياً يخدم التعافي السريع بعد انخفاض حاد الغرض المفيد المتمثل باستيعاب الركود الزائد وتوفير وسادة لتخفيف الصدمات الحتمية التي يبدو أنها تضرب الاقتصاد العالمي دائما، ويسلط غياب مثل هذه الوسادة الضوء على الضعف المستمر، بدلا من الإشارة إلى قدرة مكتشفة حديثا على الصمود.
بعد سنوات من اليأس في أعقاب الأزمة أصبح الإجماع العريض بين المتكهنين متفائلا للغاية بشأن آفاق الاقتصادي العالمي في عام 2018، والآن يُنظَر إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي باعتباره قويا، ومتزامنا، وخاليا من التضخم على نحو متزايد، والواقع أن الأسواق المالية الممتلئة بالحيوية والنشاط من غير الممكن أن تطلب أكثر من ذلك.على الرغم من الاحترام الكبير الذي أكنه لمجتمع التنبؤات والتكهنات والحكمة الجماعية للأسواق المالية، فأظن أن الإجماع اليوم على الرضا عن الذات سيخضع لاختبار جدي في عام 2018، وربما يأتي هذا الاختبار من صدمة، وخصوصا في ضوء التهديد المتزايد الخطورة المتمثل باندلاع حرب ساخنة "مع كوريا الشمالية"، أو حرب تجارية "بين الولايات المتحدة والصين"، أو انهيار إحدى فقاعات الأصول "البيتكوين على سبيل المثال"، ولكن حدسي ينبئني بأن الصدمة ستكون نابعة من شيء أكثر جهازية وشمولا.الواقع أن العالَم بات مجهزا لتفكك ثلاثة اتجاهات كبرى: السياسة النقدية غير التقليدية، واعتماد الاقتصاد الحقيقي على الأصول، ومراجحة الادخار العالمي المزعزعة للاستقرار. فالآن تحيق المخاطر بالأساسيات التي تقوم عليها حالة التفاؤل الحالية، وأظن أن واحدة أو أكثر من ركائز الرضا عن الذات هذه قد تنهار في عام 2018.
من المؤسف أن لحظة الحساب هذه باتت محسومة، فقد كررت البنوك المركزية، المصابة بفقدان الذاكرة، الخطأ نفسه الذي ارتكبته في التعامل مع فقاعات ما قبل الأزمة في الفترة من 2003 إلى 2007؛ الإبقاء على سياسات نقدية مفرطة التساهل لفترة أطول مما ينبغي، ومن الواضح أن السلطات النقدية، المضللة بفِعل استهداف التضخم في عالَم خال من التضخم، أرجأت تطبيع السياسة النقدية لفترة طويلة للغاية.ويبدو أن هذا بدأ يتغير الآن، ولكن على مضض، وإذا كان أي شيء مؤكدا فهو أن التطبيع القادم، كما تشير البنوك المركزية، ربما يكون حتى أشد تباطؤا من ذلك الذي شهدناه في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فما الداعي للتعجل، وفقا لهذه الحجة، في ظل معدلات التضخم التي تظل أقل من المستوى المستهدف؟للأسف الشديد هناك تطور مهم لم يكن معلوما آنذاك، وهو دفاتر ميزانيات البنوك المركزية العمومية المتضخمة، ففي الفترة من 2008 إلى 2017، توسع مجموع الأصول التي تحتفظ بها البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة الرئيسة (الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو، واليابان) بنحو 8.3 تريليونات دولار أميركي، وفقا لتقدير بنك التسويات الدولية. مع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في هذه الاقتصادات ذاتها بما لا يتجاوز 2.1 تريليون دولار خلال الفترة نفسها، وعملت السيولة الزائدة التي تعادل 6.2 تريليونات دولار على تشويه أسعار الأصول في مختلف أنحاء العالَم.وهنا يكمن جوهر المشكلة، فقد جرى دعم الاقتصادات الحقيقية بشكل مصطنع بفِعل أسعار الأصول المشوهة، وسيعمل التطبيع البطيء على إطالة أمد هذه التبعية، ومع ذلك عندما تبدأ دفاتر موازنات البنوك المركزية في التقلص أخيرا، ستُصبِح الاقتصادات المعتمدة على الأصول عُرضة للخطر مرة أخرى، ومن المرجح أن تكون المخاطر اليوم أشد كثيرا مما كانت عليه قبل عشر سنوات، ولا يرجع هذا إلى العبء المترتب على تضخم ميزانيات البنوك المركزية فحسب، بل أيضا المبالغة في تقدير الأصول.ويصدق هذا بشكل خاص في الولايات المتحدة، فوفقا للخبير الاقتصادي روبرت جيه. شيلر الحائز جائزة نوبل، تُعَد نسبة مكاسب الأسعار المعدلة دوريا التي بلغت 31.3 أعلى بنحو 15% حاليا مقارنة بما كانت عليه في منتصف عام 2007، قبل اندلاع أزمة الرهن العقاري الثانوي مباشرة. الحقيقة أن هذه النسبة تجاوزت مستواها الحالي مرتين فقط طوال تاريخها الذي يتجاوز 135 عاما- في عام 1929 وفي عام 2000- وهاتان سابقتان غير مريحتان على الإطلاق.وكما تجلى بوضوح في عام 2000 ثم في عام 2008، فإن السقوط الحاد الذي ينتظر أسواق الأصول المبالغ في تقديرها لا يتطلب حدثا كبيرا، وهنا ربما يأتي دور الاتجاه الثالث: التعديل العنيف لمزيج المدخرات العالمي، وفي حالتنا هذه، يدور الأمر برمته حول الصين والولايات المتحدة؛ طرفي النقيض لتوزيع المدخرات العالمية. فقد أصبحت الصين في وضع امتصاص المدخرات؛ حيث انخفض معدل الادخار المحلي هناك من ذروته التي بلغت 52% في عام 2010 إلى 46% في عام 2016، ويبدو أنه يتجه إلى 42%، أو أقل، على مدار السنوات الخمس المقبلة. فالآن يجري توجيه المدخرات الفائضة الصينية على نحو متزايد إلى الداخل لدعم المستهلكين من الطبقة المتوسطة الناشئة؛ مما يقلل من المتاح لتمويل الدول المحتاجة التي تدير عجزا في المدخرات في أماكن أخرى من العالَم.في المقابل تلجأ الولايات المتحدة، دولة العجز الأشد احتياجا، حيث لا يتجاوز معدل الادخار المحلي 17%، إلى اختيار التحفيز المالي، وهذا من شأنه أن يدفع إجمالي المدخرات الوطنية إلى مستويات أدنى، على الرغم من التأكيدات الفارغة الممولة ذاتيا من أنصار جانب العرض، وباعتبارها أداة لامتصاص الصدمات فمن المرجح أن تتحمل الأسواق المالية المبالغ في تقدير قيمتها ضغوطا قوية بفِعل المراجحة بين أكبر الدول المدخرة، وأكبر دول العجز في العالَم، ولن يتأخر دور الاقتصادات الحقيقية المعتمدة على الأصول كثيرا.من المهم في هذا السياق أن نؤكد أن اقتصاد العالَم قد لا يكون قادرا على الصمود بقدر ما يصور لنا الإجماع؛ مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان قادرا على تحمل التحديات المقبلة في عام 2018، فتشكل توقعات صندوق النقد الدولي عادة وكيلا جيدا للإجماع العالمي، وتبدو أحدث توقعات صندوق النقد الدولي مشجعة على السطح، حيث تشير إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 3.7% خلال الفترة 2017-2018، ليتسارع النمو بذلك بنحو 0.4 من النقطة المئوية مقارنة بالوتيرة الهزيلة عند مستوى 3.3% في العامين المنصرمين.بيد أن اعتبار هذا الارتفاع نموا عالميا قويا لا يخلو من مبالغة، فهو لا يختلف عن اتجاه النمو بنسبة 3.8% في فترة ما بعد عام 1965 إلا قليلا، ومن المتوقع أيضا أن تأتي المكاسب خلال الفترة 2017-2018 في أعقاب التعافي الذي اتسم بالضعف بشكل استثنائي بعد أزمة الركود العظيم. ويستمد هذا أهمية إضافية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي الذي تباطأ إلى متوسط نمو لم يتجاوز 1.4% في الفترة 2008-2009، والذي شكل تراجعا غير مسبوق عن اتجاهه في الأجل البعيد.ويعني غياب الانتعاش القوي الكلاسيكي أن الاقتصاد العالمي لم يعوض قَط النمو الضائع في أسوأ انكماش في العصر الحديث، وتاريخياً يخدم مثل هذا التعافي السريع بعد انخفاض حاد الغرض المفيد المتمثل باستيعاب الركود الزائد وتوفير وسادة لتخفيف الصدمات الحتمية التي يبدو أنها تضرب الاقتصاد العالمي دائما، ويسلط غياب مثل هذه الوسادة الضوء على الضعف المستمر، بدلا من الإشارة إلى قدرة مكتشفة حديثا على الصمود، وهو ليس بالضبط السيناريو الوردي الذي يتبناه الإجماع المتأنق اليوم.تُعَبِر عن هذه الحال على أفضل نحو مقولة تُنسَب غالبا إلى نايلز بور، الفيزيائي الحائز جائزة نوبل: "التنبؤ أمر بالغ الصعوبة، وخصوصا إذا كان عن المستقبل"، والحق أن آفاق عام 2018 ليست مؤكدة على الإطلاق، ولكن في ظل التحولات الهائلة التي تلوح في أفق مشهد الاقتصاد الكلي العالمي، فإن هذا ليس وقت الشعور بالرضا عن الذات على الإطلاق.* ستيفن س. روتش* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مورغان ستانلي في آسيا سابقا، وهو مؤلف كتاب "علاقة غير متوازنة: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين".«بروجيكت سنديكيت، 2017»بالاتفاق مع «الجريدة»
غياب الانتعاش القوي الكلاسيكي يعني أن الاقتصاد العالمي لم يعوض النمو الضائع في أسوأ انكماش في العصر الحديث