«سبيَة»!
«سبيَة» فيلم عراقي منحته لجنة مسابقة «المهر القصير»، و{المهر الخليجي القصير»، في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الرابع عشر (6 – 13 ديسمبر 2017)، جائزة أفضل فيلم قصير، ليس من باب المجاملة أو الترضية، بل عن جدارة واستحقاق. الفيلم الذي أخرجه ضياء جودة، نجح في فضح الظاهرة «الداعشية» بشكل جديد، لم نر فيه «داعشياً» واحداً، ولم نجد أنفسنا من خلاله في مواجهة عصابات من القتلة، سفاحي الدماء وغلاظ القلوب، تتاجر باسم الإسلام والدين، وتمارس أسوأ أشكال العنف والإيذاء، من سلب ونهب وسبي واغتصاب وعنف، وارتكاب الجرائم الدموية البشعة ضد البشر العزل، أو «عمليات غسيل المخ»، على الأطفال، أو تُمجد سيرة أم تونسية قررت اختراق الحدود التركية السورية، لتحرير ابنها من العصابة «الداعشية»، التي غررت به، وضمته إلى صفوفها!في «سبيَة» (العراق / 15 دقيقة /2017) يقدِّم المخرج العراقي ضياء جودة، الذي ولد في بغداد عام 1979، ودرس السينما في «أكاديمية الفنون الجميلة» في بغداد ومعهد «آنييس ڤاردا»، وعمل مساعد مخرج ومصوّراً، قبل أن يتخصص في إنجاز الأفلام الوثائقية، شهادة حية عن جرائم «الداعشيين»، عبر مأساة امرأة ايزدية تتشبث بالعيش، مع ابنتها الصغيرة، على سفح جبل في شمال العراق، بعد ذهاب زوجها برفقة آخرين لقتال «داعش». وتبدأ الأحداث بطائر يُجز رأسه، كما يحدث مع رهائن «داعش». وبعد استعراض الحياة البائسة للبطلة الشغوفة بمتابعة نشرات الأخبار، عبر مذياعها القديم، وتعيش مع ابنتها، وكلبهما الآمن، بعد هروبهم من قبضة الإرهابيين، الذين فرقوا بين الرجال والأولاد، وبين النساء المتزوجات والفتيات، وحددوا سعراً لكل واحدة، حسب جمالها وعمرها، وتشعر بالقلق في انتظار عودة زوجها، يفاجئنا المخرج / كاتب السيناريو بمشهد لصبي يقترب من عرين المرأة، التي تتوجس منه خيفة، ظناً منها أنه واحد من «الداعشيين»، قبل أن تكتشف أنه أحد ضحاياهم، وتطببه وترعاه. وننصت، معها، إلى شهادته الحية حول العصابات التي اقتحمت داره، وألقت بأمه وشقيقته في مؤخرة سيارة نصف نقل سوداء، بعدما أطلقوا النار، بينما كان يلهو خلف الدار، على والده وشقيقه، ويهرول خلفهم ليكتشف أن ثمة سيارة أخرى تختطف النساء والفتيات من ديار المسيحيين في الوادي، وعقب اختفاء السيارات، يهيم على وجهه في الصحراء، تحت وطأة الظمأ وحرارة الشمس، ويضل طريقه إلى أن يجد نفسه بالقرب من مقبرة جماعية تنبعث منها رائحة عفنة لمئات من جثث الرجال اليزيديين، والكلاب تنهش الرفات!
الطبيعة القاسية لم تحل دون إبداع المخرج لغة بصرية أخاذة، وظّف من خلالها الظل والضوء على نافذة الدار التي تسكنها المرأة لتصبح أقرب إلى «الزنزانة»، وبعد ما تُصدم المرأة في شهادة الصبي، وتستشعر اقتراب الخطر «الداعشي»، تُعيد النظر في قرارها، وتُجبر ابنتها على الرحيل، لكنها تتشبث بالبقاء، وترفض الفرار، متسلحة ببندقيتها، والجاز الذي جعلت منه سياجاً حول محيط منزلها قابلٌ للاشتعال في مواجهة العدو الغادر، الذي أبت كرامتها أن تكون رهينته أو سبيّة لديه. الفيلم أقرب، في ظاهره، إلى فيلم عراقي آخر بعنوان «جوان» (30 دقيقة / 2016) إخراج علي الجابري، جاء صورة من النشرات الإخبارية اليومية، حيث صوَر امرأة آزيدية شابة اسمها «جوان»، خطفها متطرفو «داعش»، الذين احتلوا قريتها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها، ثم اغتصبوا «جوان»، قبل أن تأتي الآلة العسكرية الأميركية لتدمر الإرهابيين، وتسيطر على الوضع الكارثي، في نهاية سعيدة تُذكرك بنهايات الأفلام المصرية القديمة. لكن «سبيَة» بدا أكثر نضجاً، في تناوله مأساة اليزيديين، الذين يتكلمون الكردية، ويتألف دينهم من عناصر من الديانات الزرادشتية والإسلام والمسيحية، وقُدر عددهم في العراق بمئات الألوف، قبل تعرضهم لهجمات التنظيم، الذي اعتبرهم كفاراً و»عبدة الشيطان»، وينبغي تخييرهم بين الدخول في الإسلام أو القتل، فأسر، في صيف 2014، نحو خمسة آلاف منهم، ونجح 2000 في الهروب من قبضتهم، أو تم تهريبهم خارج المناطق التي في حوزة المتطرفين، فيما ظل الباقون منهم في الأسر، ليلقى المئات حتفهم، ويتعرض الآلاف للاستعباد والتعذيب، والفتيات منهم للاغتصاب والإجبار على الدخول في الإسلام والزواج من عناصر «داعش». بل إنه أقرب إلى الفيلم السوري «الأب»، الذي تتعرض فيه بلدة سورية لحصار من التنظيم الإرهابي المُسمى «داعش»، لكنه يظل الأكثر تماسكاً، ووعياً، وابتعاداً عن المباشرة!