القاهرة المفعمة بالحياة القليلة التكلفة مستعدة مجدداً للمسرح العالمي
رغم ما أصاب الاقتصاد المصري بسبب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، فإن القاهرة ما زالت مفعمة بالحياة كسابق عهدها، ولم أشعر خلال تنقلي في هذه العاصمة القديمة بأمان أقل مما أحس به في أي مدينة أميركية أو أوروبية، ومن المثير للاهتمام أنها تظل مقصداً جيداً لكل مَن يسعون إلى عقد الصفقات، وراغبي زيارة الأماكن السياحية العريقة والتنزه في أماكن عديدة بأسعار زهيدة.
ركن عمر سيارته الحمراء من ماركة "تويوتا" على جانب الطريق الدائري بميدان التحرير، حيث تظاهر هو وآلاف المصريين ضد الرئيس حسني مبارك قبل ست سنوات.كان عمر يسافر مع زوجته وأولاده الصغار، وقد جلس قربي في الطائرة إلى القاهرة، ولم يتردد عندما طلبت منه بعض النصائح عن نشاطات يمكنني القيام بها في العاصمة المصرية، بدت لي ذكرياته عن الربيع العربي حلوة ومُرة في آن واحد، قال: "لم ندرك حقاً ما قد يحدث"، فالاقتصاد بات يعاني منذ الانتفاضة، والعملة المصرية تراجعت إلى نصف قيمتها عام 2011، كما انخفض تدفق السياح، الذي كان متواصلاً سابقاً.لكن القاهرة بحد ذاتها ما زالت مفعمة بالحياة كسابق عهدها، لم أشعر خلال تنقلي في هذه العاصمة القديمة بأمان أقل مما أحس به في مدينة أميركية أو أوروبية، والمثير للاهتمام أنها مقصد جيد لكل مَن يسعون إلى عقد الصفقات، ويعود ذلك في جزء منه إلى تراجع أعداد السياح (زار مصر 5.4 ملايين سائح عام 2016، أي أقل بنحو النصف عما استقبلته قبل الربيع العربي).
سألني سائق شركة "أوبر" مصطفى، قبل أن يخبرني عن مدى روعة عمرو دياب: "ما وجهتك إن شاء الله؟".وصلتُ إلى فندق برلين، الذي يبدو قديماً أكثر منه فاخراً، وكان طاقم العمل متعاوناً جداً، نزلتُ في غرفة شاسعة فيها شرفتان، أما الكلفة، فتقل عن 20 دولاراً في الليلة، قصدت هرم زوسر المدرج في سقارة، الذي يقع على بعد ساعة جنوب فندقي بوسط المدينة، يتألف هذا الهرم من ست مصاطب تزداد صغراً تدريجياً وتتكدس الواحدة فوق الأخرى. والجولات الرسمية إلى تلك المنطقة لا تُعتبر مكلفة جداً (نحو 60 دولاراً كمعدل)، بيد أنني أردت استكشافها بمفردي، لذلك استعنتُ مرة أخرى بشركة "أوبر" وطلبت من السائق "ترك العداد شغالاً"، إذا جاز التعبير، في وقت ذهبت لاستكشاف الهرم والمتحف المجاور.تشير لافتة في سقارة إلى أن زوسر كان أول الأهرامات المصرية (نحو القرن السابع والعشرين قبل الميلاد)، ويُعتبر هذا الهرم سلف هرم الجيزة الأكبر الذي بُني بعد نحو قرن، واحتفظ بلقب أطول مبنى في العالم خلال أكثر من 3800 سنة.سألت أحمد، الذي كان يجلس على فرسه أميرة، مازحاً: "هل يمكنني تسلق الهرم؟". فأجابني: "أنت؟ أنت سمين جداً!". دفعت إلى أحمد 150 جنيهاً كي يصطحبني في جولة في الصحراء المحيطة، حيث يمكنك أن ترى أهرامات الجيزة من بعيد. ثم توجهتُ بعد ذلك إلى مقياس النيل، وهو أداة تعود إلى القرن التاسع وتعكس مدى أهمية الدور الذي لعبه النيل في صحة هذه المدينة وقدرتها الإنتاجية. شرق مقياس النيل مباشرةً، تعثر على عدد من المواقع التي تستحق الزيارة، منها المتحف القبطي (رسم الدخول 60 جنيهاً) عبر النهر، في هذا المتحف، ترى أجزاء محفوظة جيداً من نقوش عمرها قرون، ونماذج من الأنسجة القبطية الشهيرة، وأربعة أناجيل دُونت بالقبطية تعود إلى القرن الثالث عشر، وعلى مقربة من المتحف، ترتفع كنيسة السيدة مريم، التي تُعرف أيضاً بالكنيسة المعلقة، والتي بُنيت فوق حصن شيده الإمبراطور الروماني تراجان، وزيارتها مجانية.كان طريق العودة إلى وسط القاهرة سهلا بقطار الأنفاق، صحيح أنني واجهتُ تدافعاً خلال عملية شراء البطاقة (4 جنيهات)، إلا أن الرحلة إلى محطة جمال عبدالناصر لم تستغرق سوى 20 دقيقة، لكنك لا تستطيع بلوغ كل المعالم السياحية بسهولة بالقطار، من وسط المدينة يمكنك أن تستقل السيارة إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي المذهلة في القاهرة (رسم الدخول 60 جنيهاً)، التي زرتها بعد ظهر أحد الأيام. كان هذا الحصن الضخم، الذي بناه صلاح الدين عام 1176 بغية التصدي للصليبيين، مقر الحكومة المصرية طوال سبعة قرون تقريباً، وتضم هذه القلعة مسجد محمد علي الذي يستحق بالتأكيد الزيارة، وإن لم يكن الأقدم والأكثر أهمية تاريخياً بين مساجد المدينة.لا شك أنك ستحتاج إلى الطعام لتخوض حملة الاستكشاف هذه، ومن حسن الحظ أن الكشري، أكلة مصرية شهيرة تتألف من العدس، والحمص، والمعكرونة، والبصل المقلي، وصلصة الطماطم الحارة، لذيذ وغني بفيض من النشويات التي تمدك بالطاقة، وبـ 15 جنيهاً تستطيع شراء طبق ممتلئ بـ"كشري أبوطارق"، مطعم الكشري الأكثر شهرة على الأرجح في المدينة.أما إذا لم يقضِ الكشري على جوعك، فثمة مطعم صغير لا يبعد كثيراً في شارع معروف يبيع سندويشات طعمية (الفلافل المصرية) صغيرة مقابل ثلاثة جنيهات فقط.يشكّل الاستمتاع بالشاي والنرجيلة المملوءة بتبغ بطعم الفاكهة المتعة المفضلة بعد الوجبة (أو في أي وقت آخر في الواقع) بالنسبة إلى أهل القاهرة، وبعد ذلك، رافقت صديقي ابراهيم وزوجته إلى مقهى على الرصيف في الجهة المقابلة لمسرح السلام في منطقة قصر العيني جنوب ميدان التحرير.لم تكلفنا ثلاثة أكواب من النعناع القوي ونرجيلتان محشوتان بخليط من التبغ والدبس سوى 35 جنيهاً، ناقشنا مواضيع شتى عن المال، والتاريخ، والدين (إبراهيم وزوجته قبطيان)، والسياسة بالتأكيد من عبد الناصر إلى السيسي ومَن بينهما. وبينما راح دخان النرجيلة يتصاعد، راقبنا السيارات المسرعة نحو وسط المدينة، وتساءلنا عن مستقبل القاهرة، تلك المدينة التي ناضلت لتعثر على استقرارها خلال السنوات الست الماضية، إلا أنها تتوق مرة أخرى إلى استعادة موقعها على المسرح العالمي.● لوكاس بيترسون - «نيويورك تايمز»