زمن معكوس!
في أيام دراستي الجامعية كانت هنالك طالبة معروفٌ عنها أنها "غشاشة" درجة أولى، بالكاد تحضر المحاضرات أصلا، فكلنا نعرفها وشهدنا سواد وجهها الذي كانت تواريه في كل مرة تُطرد فيها ودون عدول أو توبة، لـ"ترجع حليمة لعادتها القديمة".تخرجنا ويسّر الله لنا فوُظِّفنا لنُفاجأ بأن "الغشاشة الكسولة" ذاتها تحتل منصبا استشاريا في إحدى مؤسسات الدولة المرموقة! بل صارت تظهر في مقابلات حوارية تلفزيونية عدة، فأحدث هذا الموقف ذهولاً لي ما زلت أستشعره كلما ذكرتها. وفي السياق ذاته، طالبة أخرى ابنة "هامور كبير" تتخرج دون أدنى جهد، وتكمل دراستها في الماجستير بالواسطة، لتُصبح اليوم ذات منصب رفيع جداً في أحد الأماكن "الهاي كلاس"، ودون أن تسهر ليلة واحدة لدراسة امتحان واحد! فالأرزاق بيد الله وحده، وكما يقولون "الله يهني سعيد بسعيدة"، لكن أن تشهد بعينيك نماذج لم تسلك سلم الصعود ذاته المقرر على الجميع، إنما من خلال طرق ملتوية للصعود دون اكتراث بقواعد وقوانين اللعبة، وصلت إلى ما وصلت إليه لتستحق بعد كل ذلك درعا مع لائحة شرف رغم التحايل البين، فهنا تقف مُحتجا، فلا يعقل لكثيرين أن يتنافسوا بجهد وشرف ليأتي مراوغ غير شريف لم يجتهد أصلا، ومع ذلك يتم تكريمه على مرأى ومسمع كل من شهد تحايله!
كانت تلك المواقف أولى الصدمات التي ساهمت في تراخي إرادتنا وطموحاتنا، وجعلتنا في فتور مُبهم، لم نكن نعلم أنها بعض صدمات أُخريات، ولم نكن ندري أنها مجرد البداية، والآتي أكبر وأعظم! هنالك خلل ما في هذه الحياة، هنالك ظلم ما لا يقبله العقل أو المنطق. وللأسف تكاثر الفساد إلى أن اعتدناه، فصار عاديا جدا أن يرأسك من لا خبرة له ولا شهادة، وبات عاديا جدا أن تدخل على اختصاصي لا يفهم، واشترى شهادته الاستشارية بالحيلة و"عاش الدور"! بل تطور الموضوع إلى أكثر من ذلك، فصار أغلب التافهين مشاهير، والمجانين حكاما، والمهرجون مكرمين، والعصاميون مهمشين!انقلبت الموازين وصار الشريف الذي يمشي على صراط مستقيم هو المتخلف وقليل حظ ورزق! والدجالون المرتزقة الوصوليون هم الذين يصلون إلى القمم، هنالك شيء ما يحدث خفية، فلا يُعقل أن يكون سلم الحياة مغشوشا، أو ربما يعمل عكسيا، فكلما صعدت خطوة نزلت من الجانب الآخر دون أن تشعر، أو ربما الدنيا بكاملها صارت "مقلوبة باتنجان"؛ واللذاذة كلها تكمن في الأسفل والقاع، ولا شيء في الأعلى، لا أدري حقيقة ما الذي يحدث؟!وكما يقول أنطونيو تابوكي: "العالمُ هستيريٌ في هذه اللحظة، ويجب على الأجيال الشابة البحث عن الأصالة بغية محاربة هذه الفظاعة وهذا الجنون".