في أخلاقهم ثغرات الماضي
قد نجد طفلاً لا يتجاوز الخامسة من عمره، ولا يكاد يفقه بعض المصطلحات اللغوية، وخبرته لا تتعدى حاجاته اليومية من مأكل وملبس ولعب والاحتواء العائلي من أسرته... إلخ، ثم تجد أن هناك من يتجاهل طبيعته كطفل في هذه المرحلة، ويحرمه حقوقاً ويطالبه بأخرى لا تتماشى مع مرحلته العمرية. نعم قد نجد أطفالاً نوابغ يحفظون القرآن الكريم في هذا العمر، وباستطاعتهم أن يتعلموا أموراً أخرى، وهذا نتاج التربية والمتابعة والرعاية له، وربما تجدهم أيضاً يعملون في بعض المهن لمساعدة ذويهم المحتاجين، غير أنهم، رغم كل هذا، يظلون صغار السن ضعاف البنية، يحبون اللعب والمرح، خبرتهم في الحياة بسيطة، قد يواجهون التوبيخ والمخاطر والموت لعدم إدراكهم معنى الخطر أو الخطأ في بعض الأمور، لأنهم أطفال، ولطفولتهم رفع الله، سبحانه، عنهم تكليف الصلاة والعبادات إلى أن يصلوا إلى سن الإدراك، ومع هذا كله يزرع مجتمعنا وثقافتنا العربية في الطفل (الذكر) فكرة أنه رجل من اللحظة الأولى التي يستطيع فيها فهم مثل هذه الفكرة. نجد الأب يطلب من ابنه عدم البكاء، لأنه من العيب على الرجل البكاء، أو عيب أن يلعب بصوتٍ عال ليعبر عن مشاعره، أو يأمره بألا يلعب كثيراً كالطفل، بل عليه أن يجلس كما يجلس الرجال، وتجد عينيه تتابع الأطفال الآخرين وهم يلعبون، ومع هذا يُحرَم ذلك الطفل "الرجل" حقاً آخر، وهو حقه في المشاركة وإبداء الرأي والاستقلال، فيسمع هاتين العبارتين اللتين نقولهما بالعامية: "مو ناقصنا الا ناخذ بشور جاهل" أو "أنت جاهل لا تحشر نفسك مع الرجال في شي ما تفهم فيه"، وبهذه الممارسة نطلب من الطفل أن يكون رجلاً، وأن يسلك سلوك الرجال في مواقف محددة، ثم نُحرم عليه أفعال الرجال ونعيده طفلاً في مواقف أخرى.
هذا التناقض يسبب معاناة نفسية وصراعاً داخلياً للطفل يقوده إلى التمرد ومخالفة التعليمات، ويظهر هذا التناقض بشكل كبير وملحوظ في سن البلوغ (مرحلة الثانوية) التي تصبح فيها الحاجة إلى الاستقلالية وإبراز الشخصية أمراً مُلحاً لدى الأولاد الذكور، لذا تجد كثيراً من معلمي الثانوية يشتكون تمرد الطلبة وعدم إذعانهم لأوامرهم، وتكثر المناوشات والعراك بين الطلاب وأقرانهم، أو مع معلميهم، مما يؤدي إلى تفشى هذا السلوك في المجتمع، وهذا ما نرى آثاره اليوم في المجمعات التجارية والأماكن العامة حيث يتواجد الشباب، فأي خلل في سلوك الأولاد فهو نتاج التربية، ففي أخلاقهم تجدون ثغرات الماضي، لأنها تراكمات عمرية؛ فعندما يُقال للطفل أنت رجل وهو لا يزل طفلاً فإنه يُحرم لذة العيش في زمنه، وتظل نفسه تطلب التعويض في هذا الزمن المفقود. فيا ترى هل تستطيعون أن تعودوا بالزمن للوراء لتعيدوا إليه طفولته المحرومة والمسلوبة أم ستظلون تقولون: هكذا تربينا؟عليكم إن لم تتوقفوا عن سلب طفولتهم المنتهكة أن تتحملوا تراكمات وغضب أبناء الجيل القادم، لأنهم يعيشون في زمن غير زمانكم، فالأمس لا يشبه اليوم، واليوم لا يشبه الغد.