بشأن الجاذبيتين: الذاكرة والمخيلة (3- 4)
بادرة الأمل في مثقف رواية فلاح رحيم (حبات الرمل... حبات المطر)، أنه أحس عميقاً بالمأزق. أحس بالخلخلة في التوازن المطلوب بين الذاكرة والمخيلة. في معرض الحديث عن الشاعرين الرومانتيكيين وردزورث وكوليرج قرأت لأحد النقاد قوله إن المخيلة بالنسبة إليهما تُحضر البهجة إلى القلب، والذاكرة قلعة حصينة للروح. وهذا الرأي تؤكده الخبرة الشخصية. إن المخيلة خيار بالغ الأهمية، لكن الذاكرة ضرورة. يصح هذا على الإنسان العادي، وعلى مبدع الكتابة. الذاكرة دون مخيلة تصبح تاريخاً تسجيلياً، والمخيلة دون ذاكرة تصبح تهياماً ذهنياً ولفظياً.
إن العقل، الذي ينعم بمسرات الفكر والأدب الغربيين مقطوعاً ثقافياً عن فاعلية الذاكرة الشخصية أو الجمعية، مُعرَّض لفقدان التوازن، فهو أشبه ببالونة دخان ملونة أبداً في ابتعاد، حتى لو كان صاحبها يمسك بها بخيط. مع أن العقل الذي ينعم بغنى الذاكرة فيما هو شخصي من حياته، وفيما هو ثقافي من تراثه، قد يحقق توازناً، حتى لو انفرد بذلك، لأن الذاكرة الغنية، هذه القلعة الحصينة، ستزدحم بالإيحاءات الخيالية. قلت إن بطل فلاح رحيم وعى ذلك، لكنه عجز عن إيجاد الحل، لأن هذا البطل عاش حياة داخل عتمة السلطة القمعية، ومعرضة للهلاك. فهو لا يملك أن يكون دائم التفرغ، وبطمأنينة، للغرق في بحران بالونة الدخان الزاهية، أو في سحر إكسير الحب الإيهامي، الذي كان يُلهمنا في الستينيات من داخل الشاشة الفضية عبر الأفلام الغربية. مع أننا كنا، حين نترك السينما، نخرج إلى حياة قاحلة، بالمقارنة، تعركُنا فيها المظالم، وظمأُ الحب والرغائب. لكن هذه المفارقة لم تكن مفتاح بصيرة ووعي، كما يمكن لأحد أن يتوقع، بل كانت حاضنة لشيزوفينيا ثقافية مثيرة للرثاء.عدد كبير من نتاجات الستينيين آنذاك، وحتى اليوم، ظل يزخر بزبد هذه الشيزوفرينيا الثقافية: أعيش حياة أرضية، مع النفس والآخر، أو داخل حياة المنفى البعيد، لا تمسها الحضارة الغربية بلمسة أظفُر، ويغرق عقلي وروحي، أو هكذا أتوهم، في بحران ثقافة غربية، هي وليدة حضارة حديثة بعيدة، لا حدود لغناها. جسدٌ واحد ينطوي على كيانين متعارضين، متنافرين. هذه الحالة حفّزت كثيرين على الكتابة الإيهامية، وعطّلت كثيرين عن الكتابة. أستثني من هذا المصير كُتاباً كانت حياتهم الثقافية معبأة بذاكرتهم الشخصية، وبتراثهم الثقافي. أصدر فاضل عباس هادي، وهو ستيني مُقل، أخيرا، كتاباً بعنوان "لمسات ورّاق فرنسي الهوى" (شُبّر للطباعة، لندن 2017)، قد يبدو لكثيرين بالغ الغرابة لأهوائه المتطرفة، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي. فقد شغلني الجيل الستيني العراقي والعربي منذ مرحلة مبكرة، وضم هذا الشاغل أكثر من كتاب نقدي (ثياب الإمبراطور، يوميات نهاية الكابوس، تهافت الستينيين، إضاءة التوت وعتمة الدفلى، شاعر المتاهة وشاعر الراية، ومئات من المقالات في الصحافة الثقافية). فاضل في شخصه وكتابه عينة دالة على هذه القطيعة الستينية مع الذاكرة، الأمر الذي عطله عن الكتابة حتى الخامسة والسبعين من العمر. وكتابه هذا، وفاضل يَعِد بجزء ثانٍ منه، ليس إلا بياناً يعرضُ فيه هذه القطيعة، ويكشف بعض ثمارها. وهو في شخصه صديق وديع هادئ الطبع، من النادر أن ألتقيه ويلتقيه غيري ممن أعرف. يحب الكتب، وقد عمل "وراقاً"، كما يحب أن يصف نفسه، في مكتبة بباريس وأخرى بلندن، ويحب الفوتوغراف. وهو يُحسن اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بدأهما في وقت مبكر بالناصرية، مدينة مولده ونشأته الأولى. أقام في هذا البلد قرابة 35 عاماً، وفي فرنسا قبله، وفي بيروت قبلهما. يقيم في بيت منحته إياه البلدية في قلب لندن، وله، شأن أي مواطن، راتب تقاعدي يسد الحاجة. مواصفات يحسدها عليه كل مثقف عربي، أو عراقي، يقيم في المنفى أو في بلده. لكنك لم تقع له على كتاب من تأليفه في شؤون الثقافتين، موضوعاً أو مترجماً، أو كتاباً نثرياً أو شعرياً من إبداعه، على هذه الخلفية الثرّة من التجربة، ولا على معرض فوتوغرافي، ولا على ما تجتهد به خبرتُه بهذا التنوع والطول. أين يكمن السبب؟ كتابه هذا يجيب عن ذلك دون لبس، وإن بصورة غير واعية.