في مقابل آلاف المقالات والأخبار التي تملأ الإعلام الغربي بهجوم متواصل على الرئيس بوتين، لا يتوقف الرجل الملقب بـ"القيصر" عن حصد الإعجاب، أو عن تعزيز مكانته، بوصفه أحد أهم زعماء العالم في الوقت الراهن، وأكثرهم قدرة وتأثيراً.

لا يمكن أن نتصور أن التقدير الذي يحظى به رجل روسيا القوي ينبع من الإعجاب بأدائه الأخلاقي، أو حتى باتساقه مع مبادئ الحكم الديمقراطي، واحترامه لسيادة الدول، وامتناعه عن التدخل في شؤونها؛ إذ يقدم بوتين سجلاً خاوياً تقريباً عندما يتعلق الأمر بهذه المناقب.

Ad

يستعد بوتين لخوض الانتخابات الرئاسية مجدداً مطلع العام المقبل، ولا يجد نقاده بين منافسيه المعلنين من يمتلك نصف حظوظه، وهو الأمر الذي سيقوده مرة أخرى إلى موقع الرئيس، مكرساً سلطة لم تشبع من التمكين والإدارة الشمولية.

أول أمس الجمعة، كان بوتين يتحدث في اجتماع موسع لوزارة الدفاع الروسية، حين أكد أن قوات بلاده النووية "توفر ردعاً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه"، قبل أن يعود ويعلن أن تلك القوات "في حاجة إلى مزيد من التطوير".

لقد كشف بوتين عن خطة التطوير تلك، ليتضح أنها تتعلق بـ"الثالوث النووي"؛ أي طرق إطلاق الأسلحة من الخزينة النووية الاستراتيجية: قاذفات القنابل الاستراتيجية، والصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي يتم إطلاقها من الغواصات.

يعتزم الرئيس الروسي تجديد ترسانة بلاده النووية بنسبة 90%، بحلول العام 2021، كما أعلن أنه سيطلق برنامج تسلح جديداً اعتباراً من مطلع العام المقبل؛ وهو إعلان سيمثل إزعاجاً كبيراً للدوائر الغربية؛ إذ سيزيد من القدرات الاستراتيجية الروسية، بما يجعلها أكثر قدرة على إدارة صراعاتها، وإنفاذ إرادتها في الكثير من الملفات التي يتزايد تأثيرها فيها باتساع أقاليم العالم.

يعد هذا ببساطة شديدة تنصلاً من آليات الحد من التسلح النووي، التي انخرطت فيها روسيا قبل أكثر من عقدين، ورداً غير مباشر على ما اعتبرته موسكو "صلفاً أميركياً"، تمثل في ربط واشنطن بين المضي قدماً في تلك الآليات وبين رفع العقوبات عن روسيا.

يريد بوتين إذاً أن يخبر خصومه ونقاده أنه سيمضي قدماً في تعزيز القدرة الاستراتيجية لبلاده، وأنه في سبيل ذلك لن يظهر التزاماً بالتوافقات التي أرادت واشنطن بناء سلطتها العالمية على أساسها في ظل "روسيا متعثرة وضعيفة".

يحظى بوتين بشعبية كبيرة بين قطاعات مؤثرة من الجمهور الروسي بطبيعة الحال، أو هذا على الأقل ما تخبرنا به استطلاعات رأي موثوقة، ونتائج انتخابات يفوز بها الرجل باستمرار، فضلاً عن تصدره الكثير من الاستفتاءات الإعلامية لأكثر الأشخاص تأثيراً وجماهيرية، سواء داخل بلاده أو خارجها.

ورغم أن الأوضاع الاقتصادية في روسيا ليست على ما يرام، والعملة الوطنية تعاني تدهوراً أمام الدولار الأميركي، وعجز الموازنة متفاقم، ونسب البطالة والتخضم مرتفعة، فإن أي مقارنة بين تلك الأوضاع ومثيلاتها قبل وصول بوتين إلى الحكم يصب في مصلحته بكل تأكيد.

ليست الإنجازات الاقتصادية هي أفضل ما يمكن أن يفخر به الرئيس بوتين حين يستعرض سجل خدمته خلال السنوات التي خدم فيها رئيساً للوزراء ورئيساً للجمهورية اعتباراً من نهاية التسعينيات الفائتة، ومع ذلك، فقد حافظ على قوام الدولة الاقتصادي، ولم يسمح بانهيارها، وحقق تقدماً ملموساً قابلاً للقياس.

لكن الإنجازات الكبيرة التي لا يمكن إنكارها تحققت في مجال السياسة الخارجية، وهي إنجازات يمكن أن تمثل خسائر لدول أو أقاليم مختلفة، كما يمكن تفسيرها على أنها انتهاكات أو اعتداءات على سيادة دول أخرى، لكنها على أي حال تحقق المصلحة الوطنية من وجهة النظر الروسية.

لقد أعاد بوتين روسيا إلى مركزها كأحد الأقطاب العالمية المؤثرة والمحورية في صنع السياسات الدولية، وباتت موسكو في عهده لاعباً رئيساً ورقماً لا يستهان به في منازلات السياسة الدولية، رغم تراجع الكتلة الحيوية لها مقارنة بسلفها الاتحاد السوفياتي السابق.

قبل أكثر من عامين بدأ الإعلام الغربي في شن حملة عدائية شديدة ضد بوتين، حيث اتهمه بكل الاتهامات التي يمكن أن توجه إلى حاكم.

لا يبدو أن كثيراً من الاتهامات التي وجهها الإعلام الغربي والدوائر السياسية في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا لبوتين حقيقي على أي حال، وربما يكون معظم تلك الاتهامات مصطنعاً بهدف الإضرار بمركز الرجل وصورته الذهنية ومن ثم تقويض نفوذه وإضعاف تأثيره.

لكن تلك الاتهامات والانتقادات تناسبت طردياً مع صعود النفوذ الروسي، الذي انعكس في تعزيز العلاقات مع بعض دول العالم المهمة، وإنفاذ إرادة موسكو في البلقان، وسورية، ووجودها الواضح والمعتبر في معظم المشكلات ذات الطابع الدولي.

لكن السؤال الذي يثور الآن: كيف حقق بوتين هذا التقدم من دون أن يكون ديمقراطياً على الطريقة الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية؟ وهل يمكن أن يتحقق التقدم خارج إطار الوصفة التقليدية للعالم الغربي؟

لكي تتم الإجابة عن هذا السؤال يجب استعراض بعض تجارب التقدم التي شهدها العالم في نصف القرن الأخير، حيث سيظهر أن عدداً من هذه التجارب ازدهر في مجتمعات لم تعرف الطريقة الغربية في التنمية السياسية والاقتصادية، ولم تتبع النموذج الليبرالي الغربي بالضرورة في خططها التنموية والإصلاحية.

لقد جرى التغيير، وحدث النمو، وتحقق التقدم في ماليزيا، وسنغافورة، وتركيا، والصين، من دون ديمقراطية غربية، ومن دون مساندة ومديح أميركيين في بعض الأحيان.

الديمقراطية ليست هدفاً في حد ذاتها، ولكنها طريقة لإدراك الهدف، والحكم غير الديمقراطي ليس وصفة فشل في كل الأحوال، لكنه أكثر قابلية لزرع الاستبداد، الذي يخفي عيوب الأداء، ويقود إلى السقوط.

يعطي بوتين مثلاً يمكن أن يكون ملهماً لكثير من قادة العالم، كما أنه يطرح قاعدة صالحة للاختبار، أما المثل فهو: "القدرة والإرادة والإصرار"، وأما القاعدة فتقول: "يمكنك أن تكون زعيماً مستبداً، لا تحترم سيادة الدول وإرادة شعوبها، ومع ذلك، فإن ما تحققه من إنجاز، عبر أداء رشيد وفعال، سيقودك إلى النجاح".

* كاتب مصري