الكتابة حقل الكاتب، يفعل بها ما يريده من حقله، وما يصبو إليه من توجهات ورغبات، لذا يحق لكل كاتب أن يخطط ويشكل مردود حقله بالطريقة التي تناسبه وتناسب توجهاته، لذا عملت منذ بداياتي في الكتابة ألا يكون لي أسلوب ثابت، لأني أكره الثبات والجمود والشكل المتحجر الدائم، فكيف الوصول إلى ما أصبو إليه بتحقيق هذه المعادلة، أن تكون لي كتابة متميزة وفي ذات الوقت هاربة من قضبان سجن الأسلوب؟بعض أصدقائي قالوا إن من المستحيل الهروب من الأسلوب، لأنه قاعدة الكتابة، فكان ردي بالتمرد وباللعب على كسر كل شكل لكل تقنية أبتكرها في عمل ما أقوم به، أي أن أهدم بكل مرة التأسيس السابق له، بخلق لعبة تقنيات جديدة سواء على صعيد الزمان أو المكان أو اللغة، وبهذا لا يتأسس أسلوب ثابت وسجن لقالب جامد يحبس الكتابة.
قال لي صديق حتى بهذا الهدم الدائم وإحلال ألعاب جديدة، ستكون النتيجة تأسس أسلوبك بهذا الشكل المغامر، قلت حتى مع الوصول لهذه النتيجة أنا في النهاية تمتعت باللعبة الجديدة.ما أقصده بهذا الكلام أن حقل الكتابة يشبه صاحبه، فإن كان شخصية تقليدية محافظة متزمتة فإن الكتابة ستأتي على شاكلته متزنة وقورة رصينة مقيدة بأحكام نظام وقيود سجن الكتابة وأشكالها التقليدية المعتاد عليها، صحيح أحب أن أقرأ هذا النوع من الكتابة، لكني لا أتمناها لنفسي أبدا لأنها لا تشابهني ولا شخصيتي تشبهها.إذن الكتابة هي ذاتنا في المرآة، فإذا كانت كتابتي نزقة متمردة ضاجة بفوضوية مجنونة هاربة من كل قيود النظام وشكل الأسلوب والتنظيم والرصانة والوقار، ومن كل قيود الثبات والجمود والمألوف، فهي صورتي في المرآة، وأنا أحبها لأنها جاءت مثلي متجددة جسورة حيوية فضولية متملصة من كل ما هو ثابت وجامد، والكتابة تحتاج لهذا الانقلاب والهدم لكل ما هو ثابت متحجر، لأنها حقل للتجارب والتجديد والاكتشافات، وهذا لن يتحقق بالأسلوب الثابت الجامد الرزين، فقط الكتابة المجنونة الخارجة والهاربة والمنفلتة من قيد تثبيت وتربيط الأسلوب، وحدها قادرة على الإتيان بالمثير والجديد غير المعتاد عليه، وتحرض على الخروج لفضاءات أوسع وحرية أكبر للكتابة.والكتابة عندما تعكس صورتنا وذواتنا فهذا يعني أنها باتت انعكاسا للتعبير بلغة جسدنا، أي أن اللغة التي نكتبها باتت تأتينا عبر شبكة وخلايا الحواس العصبية والحسية فيه، وبهذا تكون الكتابة قد اتحدت اتحادا كاملا بجسد الكاتب، وباتت تعبيراتها انعكاسا كاملا لما يتأتى من حواسه الخمس، وبهذا التماهي ما بين لغة الكتابة وتعبيرات الحواس، تنتج لغة صادقة صافية معبرة صائدة وقابضة تماما على المعنى الذي تريده، لأنه صدر من إحساس إحدى الحواس لدى الكاتب، وهذه الشفرة هي ما تسمى بكتابة الجسد، وهي الأنقى والأضبط مما يشتغل عليه الوعي المتربص والقاموس اللغوي الجاهز المتعارف عليه، وهو ما توصلتُ إليه من ممارسة الألعاب الكتابية والهدم الدائم لكل تأسيس سابق عليه.يحق للكاتب المبدع أن يلعب ويجدد ويبتكر كل ما يجده إضافة للغة النص من اشتقاقات وتوليد معان جديدة تخدمه وتدعمه، كما يمكنه الاشتغال على التجاور، مما يمنح معنى أقوى وأشمل، وكذلك استخدام المفردات المتشابهة بالمعنى، لكن مع اختلافات بسيطة، وحين يستخدم الكاتب أكثر من مفردة يقصد تعميق المعنى المراد من تجاورها، مثال على ذلك: أحرث، أنبش، أقلع، أقلب، كلها تقريبا لها ذات المعنى لكن مع اختلافات بسيطة، أنبش بمعنى التقط أشياء ما، أقلع بمعنى أخرج شيئا أريد إزاحته، أقلب بمعنى أنقل من تحت إلى فوق، هذه المفردات تمنح صورة أوسع وأشمل وأعمق لمعنى الحرث، لأنها قامت بدعم أفعال أخرى إليه، وهذه جملة من روايتي: بلا قلب يحن ويحب ويشفق ويعطف، صحيح أنها تتقارب بالمعنى، لكنها أيضا تحمل اختلافاتها الصغيرة وبتكرارها وتجاورها تدعم وتعمق المعنى، وهذه مفردات أخرى تحمل نفس المعنى: الكتابة المجنونة الخارجة والهاربة والمنفلتة من الثبات والجمود والمألوف، كلها مترادفات لتعميق المعنى وزيادة تفعيل أثره على مشاعر القارئ.الكتابة حقل للابتكار واختراع ألعاب وتقنيات جديدة وإثراء اللغة بتفجيرها وإعادة تدويرها ببدايات تعيدها إلى طفولتها وصباها وألق شبابها، وهذا لن يتحقق لها إلا عن طريق الكاتب المغامر المجنون المفتون المسحور بها.
توابل - ثقافات
درس في الكتابة
25-12-2017