منذ عام 2008 انحرفت البنوك المركزية في الدول الصناعية بعيداً عن صُنع السياسات النقدية العادية بطرق متنوعة، فقد حاولت إقناع جماهير الناس من خلال "التوجيه المسبق" بأن أسعار الفائدة ستظل منخفضة فترات طويلة من الزمن، كما نشرت برامج عديدة متنوعة مثل عمليات إعادة التمويل الطويلة الأمد، وبرنامج أسواق الأوراق المالية، والتيسير الكمي، سعياً إلى تحقيق أهداف متعددة.

وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، قدمت البنوك المركزية أيضاً أسعار الفائدة السلبية، وقدم بنك اليابان، الذي كان دائماً في طليعة الإبداع، ما يسمى استهداف منحنى العائد، ولجأت بعض البنوك المركزية إلى سياسات غير تقليدية ولكنها معروفة مثل استهداف سعر الصرف المباشر.

Ad

ولكن الآن، مع سعي أغلب البنوك المركزية الكبرى إلى تطبيع السياسة النقدية، ينبغي لنا أن نسأل لماذا استُخدِمَت هذه التدابير الاستثنائية، وهل نجحت، وعندما نتطلع إلى المستقبل، ينبغي لنا أن نسأل عن التأثير الذي قد يخلفه الإلغاء التدريجي لهذه التدابير، وما إذا كان استخدامها ليثير مخاوف بعيدة الأمد، ومن خلال التأمل في هذه التساؤلات والتعامل معها، يُصبِح القائمون على البنوك المركزية أفضل استعدادًا للتصدي لأزمات المستقبل.

هل كان ذلك ضروريا؟

ينبغي لنا أن نتذكر أن الأسواق كانت معطلة بوضوح بعد الأزمة المالية في 2007-2008، ومع تجمد تدفقات الائتمان كان من المفهوم أن تبذل البنوك المركزية قصارى جهدها لتثبيت استقرار الأسواق المالية، سواء كانت سوق الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري في الولايات المتحدة أو سوق السندات السيادية في أوروبا.

لكن السبب الثاني الذي دفع البنوك المركزية إلى التدخل كان الرغبة في التأثير على العائد أو الأسعار، وكان هذا هدفاً أكثر ميلاً إلى المغامرة، لأن البنوك المركزية تدير الأسعار عادة بشكل غير مباشر، من خلال رفع أو خفض أسعار الفائدة الأساسية لا من خلال التدخل المباشر، ولكن عندما وصل سعر الفائدة إلى حد الصِفر الأدنى، رأى القائمون على البنوك المركزية أنه من الضروري التأثير على أسعار مجموعة متنوعة من الأوراق المالية الطويلة الأجل، أحياناً من خلال استهداف فئة بعينها من السندات المالية، على أمل أن ينتشر التأثير إلى الفئات الأخرى.

وكان السبب الثالث وراء تدخل البنوك المركزية الإشارة إلى الالتزام بالسياسات النقدية المفضلة.

على سبيل المثال، إذا أعلن أحد البنوك المركزية برنامجاً لشراء أوراق مالية حكومية فإن هذا يعني أنه لن يشدد السياسة النقدية مادام البرنامج سارياً، وبصرف النظر عن القصد المعلن، فإن النتيجة المباشرة كانت الإشارة إلى أسعار فائدة "منخفضة فترة طويلة".

استشهدت البنوك المركزية بكل هذه المبررات لملاحقة سياسات نقدية عدوانية من آن لآخر أو إبداعية، ولكن بصفتي محافظاً سابقاً لبنك مركزي أود أن أسوق سبباً آخر، وهو السبب الذي نادراً ما تذكره السلطات النقدية: فهي سجينة تفويضها المتمثل باستهداف التضخم.

عندما بدأت البنوك المركزية تضع نطاقاً مستهدفاً للتضخم في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، كانت تركز حقاً على الحد الأعلى، ولم يتوقع سوى قِلة من القائمين على البنوك المركزية أن تكون المشكلة مع أنظمة استهداف التضخم هي الحد الأدنى، وأن بنوكهم قد تكافح لرفع مستوى التضخم داخل النطاق بدلاً من محاولة خفضه، وهم الآن سجناء تفويض لا يعرفون بالضرورة كيف يمكنهم إنجازه.

ظل بنك اليابان يحاول دفع التضخم إلى الارتفاع لفترة تقرب من خمسة عشر عاماً، وخلال هذه الفترة كان من دواعي سرور العديد من القائمين على البنوك المركزية من مختلف أنحاء العالَم أن يقولوا للمسؤولين في بنك اليابان: "الأمر سهل جداً، إليكم كيف يمكنكم القيام بذلك"، ولكن عندما وجد القائمون على البنوك المركزية أنفسهم في مواجهة التضخم المنخفض أدركوا أن الأمور ليست بهذه البساطة.

أحد الأسباب هو ألا أحد يعرف حقاً كيف يمكن زحزحة توقع عامة الناس للتضخم المنخفض، والذي يبدو أنه يغذي التضخم المنخفض ذاته، وحتى الخيار المحفوف بالمخاطر المتمثل في إسقاط "أموال الهيلكوبتر" (طباعة مبالغ ضخمة من المال وتوزيعها على عامة الناس لتحفيز الاقتصاد) على الاقتصاد سيفشل إذا تصور الناس الذين تسقط عليهم هذه الأموال أن البنك المركزي الذي يختبر هذه الآلية مرتبك، وربما يقرر الناس ببساطة تجنيب هذه الأموال النقدية أو وضعها في حسابات ادخار، بدلاً من إنفاقها، خوفاً من يوم حساب لاحق.

في مثل هذه البيئة ينبغي للقائمين على البنوك المركزية أن يخشوا حقاً أن تنهار توقعات عامة الناس بشأن التضخم إذا اعترفوا أن "جعبتهم صارت خاوية من أي أداة سياسية"، وعلى هذا فإنهم سيزعمون دائماً أن جعبتهم لاتزال تحتوي أداة أخرى خارقة لتعزيز التضخم، ولكنهم يأملون ألا يضطروا أبدا إلى ذِكرها، ناهيك عن استخدامها.

ورغم أننا لم نر قَط دوامة انكماشية سلبية، وهي أعظم ما يخشاه القائمون على البنوك المركزية، فقد ظل التضخم منخفضاً بعناد، وعلى هذا فقد لجأ محافظو البنوك المركزية على نحو ثابت إلى زيادة الرهان على الإبداع النقدي -الأدوات الجديدة التي ربما تعزز التضخم نظرياً- حتى رغم أن عدم فعالية أدواتهم بات واضحاً على نحو متزايد.

ووفقاً لهذا المنطق، عندما يبلغ التيسير الكمي منتهاه، يتعين على البنوك المركزية أن تنتقل إلى أسعار الفائدة السلبية، وعندما تثبت أسعار الفائدة السلبية عدم كفايتها، تضطر البنوك المركزية إلى الانتقال إلى استهداف منحنى العائد، وعند كل مرحلة، عندما يتبين أن أداة سياسية ما أصبحت غير فعالة على نحو متزايد، فإنها تضطر إلى طرح أداة جديدة، حتى لا يبدو الأمر كأنها راضية عن ذاتها، وقد يوحي عدم تقديم البديل أن البنوك المركزية تخلت عن الأمل، وأن الجميع ينبغي لهم أن يتخلوا عنه أيضاً، وهذا من شأنه أن يضمن فعلياً الفشل في إنجاز التفويض الموكل إليها.

هل نجحت هذه الأدوات؟

يقودنا هذا إلى السؤال الثاني: هل نجحت أي من هذه الأدوات المبتكرة في تلبية الغرض منها؟ أجل، فعندما يتعلق الأمر بتثبيت استقرار الأسواق، يبدو أن بعض السياسات كانت فعّالة جداً، إما لأن جهة ما ذات موارد ضخمة تقدمت لشراء الأوراق المالية، أو لأن البنوك المركزية وضعت ثِقَلها خلف الأسواق وقالت: "سنبقى هنا لكي نتأكد من نجاح هذه الأدوات". كانت الفوارق في هوامش الديون السيادية في أوروبا في اتساع سريع إلى أن أعلن رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي في يوليو 2012 أن البنك المركزي الأوروبي سيفعل "كل ما يلزم" للحفاظ على اليورو، وقد خلف هذا التصريح في حد ذاته أثراً سحرياً على الأسواق.

بيد أن هذه التدخلات كان المقصود منها أيضا تحقيق التفويض الخاص بالتضخم، ولم يحدث ذلك، أي أنها لم تنجح، على الأقل حتى الآن، وقد شهدت المملكة المتحدة انخفاض قيمة العملة، وما ترتب على ذلك من تضخم، نتيجة للتصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا نستطيع أن نعزوه حقاً إلى تدابير اتخذها بنك إنكلترا، ولعل بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي كان الأقرب إلى تحقيق هدف تضخم الإنفاق الاستهلاكي الشخصي بنسبة 2%، ولكنه لايزال يناضل من أجل بلوغ هذه النسبة، على الرغم من سوق العمل المُحكَمة، وتظل بنوك مركزية أخرى أبعد عن تحقيق الهدف.

بطبيعة الحال سينبئنا القائمون على البنوك المركزية أنها مسألة وقت فقط قبل أن يبلغوا أهدافهم، وأن التدابير التي اتخذوها منعت انهيار توقعات التضخم، ولعل الأمر كذلك حقاً، فمن المحتمل أن التوقعات لم تنحدر في اليابان وبعض الدول الأخرى، لأن البنوك المركزية أشارت مراراً وتكراراً إلى أنها ملتزمة بتفويضها، وأنها لن تستسلم، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون التضخم مستقراً عند مستوى منخفض لأسباب أخرى.

ويظل من غير الواضح أيضاً ما إذا كانت السياسات غير التقليدية خلفت تأثيراً مباشراً على أسعار الفائدة الطويلة الأجل (بأي طريقة أخرى غير الإشارة)، فالدليل على هذا التأثير ملتبس، ذلك أن بعض التأثيرات ربما تظهر في إطار زمني ضيق ومع فئة ضيقة من الأدوات؛ ولكن بمجرد توسيع المنظور، تزداد صعوبة تمييز تأثير السياسات غير التقليدية، أو على سبيل المثال عندما يشتري بنك الاحتياطي الفدرالي سندات الخزانة الأميركية، فإن هذا يؤثر في سندات الخزانة. ولكن من الصعب جداً أن نورد أي دليل على أن هذه المشتريات قد تؤثر أيضاً في الطيف الكامل من السندات، وما يزيد الأمور تعقيداً أن إثبات أي صِلة بين السياسات غير التقليدية والاستثمار أو الاستهلاك في الاقتصاد الحقيقي أمر أشد صعوبة.

في مجمل الأمر، ربما خلفت السياسات الاستثنائية التي انتهجتها البنوك المركزية تأثيرا إيجابيا عندما يتصل الأمر بإصلاح الأسواق والإشارة إلى السياسات النقدية المتساهلة الطويلة الأجل، ولكن تأثيرها في النشاط الحقيقي يظل غير مؤكد.

هل التخلي عنها آمن؟

ماذا قد يحدث عندما ينقلب اتجاه السياسات؟ الشيء اللطيف حول التوقعات هو أن تكاليفها تسدد منذ البداية، وربما رأينا بالفعل ماذا يحدث عندما يغير أي بنك مركزي إشاراته: فخلال "نوبة الخفض التدريجي للتيسير الكمي" في عام 2013، تسبب الشعور العام بأن بنك الاحتياطي الفدرالي ربما ينهي برنامج التيسير الكمي، ويبدأ رفع أسعار الفائدة في إشعال شرارة الاضطرابات في السوق، وسرعان ما تسبب ذلك في دفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع.

صحيح أن الأسواق استقرت منذ ذلك الحين، ولكن يتبقى لنا أن نرى ما إذا كان تأثير السياسات غير التقليدية على أسعار الأصول المالية سينعكس في الاتجاه الآخر عندما ينقلب اتجاه السياسات، فعندما تبدأ البنوك المركزية تقليص ميزانياتها العمومية في عام 2018، ستُعاد السندات الطويلة الأجل إلى السوق، وستُمحى حيازات السوق من الاحتياطيات الفائضة، وسيحتاج مصدرو السندات إلى إيجاد المزيد من المشترين من القطاع الخاص، ولكن المشترين من القطاع الخاص سيكون لديهم الأموال الكافية لشراء المزيد من السندات، ومع حدوث هذه المبادلة بين الأصول، ربما يمكننا أن نتوقع ارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل بعض الشيء، وإذا شعرت الأسواق بالقلق بشأن المخزون النهائي الذي يتعين عليها استيعابه، فإن ارتفاع أسعار الفائدة قد يكون مفاجئاً.

حتى وقتنا هذا، أعلن بنك الاحتياطي الفدرالي وتيرة محسوبة لخفض الميزانية العمومية، ويبدو أن السوق استقبل هذا الإعلان استقبالاً حسناً، وبعد أن تجاوزنا الكثير من الإشارات، يأمل المرء أن يجري استيعاب السندات التي تسقط فعلياً من ميزانية بنك الاحتياطي الفدرالي العمومية دون حدوث تغيرات حادة في أسعار السندات، مع ارتفاعات متواضعة في أسعار الفائدة الطويلة الأجل بمرور الوقت.

السؤال الأكثر جوهرية هو ما إذا كان من الواجب على البنوك المركزية أن تفرغ ميزانياتها العمومية على الإطلاق، يؤكد جيريمي شتاين، وروبن غرينوود، وصامويل هانسون، من جامعة هارفارد أن البنوك المركزية ينبغي لها أن تُبقي على ميزانياتها العمومية كبيرة نسبياً، لأن القيام بهذا يخلق أدوات آمنة قصيرة الأجل يفتقر إليها العالَم المالي، وعندما يحاول القطاع الخاص تلبية الطلب على الديون القصيرة الأجل، كما يزعم الباحثون، فإنه يخوض عادة قدراً أكبر مما ينبغي من المجازفة، وهو ما يضر بالنظام بأسره.

ولكنْ هناك سببان على الأقل ينبغي لهما أن يمنعا البنوك المركزية من جعل الميزانيات العمومية الكبيرة دائمة، فبادئ ذي بدء، القيام بهذا يعني تولي إدارة السيولة كخدمة عامة، والواقع أن عدم كفاءة القطاع الخاص في أداء هذا الدور خلال الأزمة المالية ليس سببا وجيها بالقدر الكافي لتولي البنوك المركزية أداء هذه الوظيفة بشكل دائم، ومن المعلوم أن الخدمات الأشبه بالتأمين التي يوفرها القطاع العام تُفضي عادة إلى الاعتماد المفرط من جانب القطاع الخاص، وبخس القيمة السعرية من جانبه، وكما أظهرت أنا وزميلي دوغلاس ديموند من جامعة شيكاغو، فإن خدمات السيولة المقدمة من "الخاص" ربما تحقق فوائد إضافية لا يعترف بها دائما في المناقشة العامة.

علاوة على ذلك تنطوي ميزانيات البنوك المركزية العمومية الضخمة على مخاطر سياسية، كما يشرح تشارلز بلوسر، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفدرالي في فيلادليفيا، عندما يوسع أي بنك مركزي ميزانيته العمومية ويستخدمها على نحو غير مرتبط بالسياسة النقدية بشكل كامل، فإنه يعرض نفسه لضغوط سياسية.

على سبيل المثال، إذا احتاجت الحكومة 500 مليار دولار للإنفاق على البنية الأساسية، فلن ترى سبباً قوياً لعدم الضغط على بنك الاحتياطي الفدرالي لتحويل بعض حيازاته إلى أصول للبنية الأساسية بقيمة 500 مليار دولار، والواقع أن القائمين على البنوك المركزية في الأسواق الناشئة معتادون على هذه الطلبات، ورغم أنهم يرفضونها بأدب عادة، فإنهم يدركون أيضاً أن الرفض ربما يكون أصعب كثيراً إذا كانت موازناتهم العمومية ضخمة ومنفصلة بالفعل عن السياسة النقدية التقليدية.

مخاطر طويلة الأجل

أخيراً، هناك مسألة التأثيرات غير المقصودة التي قد تخلفها السياسات النقدية غير التقليدية على خوض المجازفة في الاقتصادات المتقدمة، وتدفق رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة وإليها، واستقلال البنوك المركزية في عموم الأمر.

من خلال حضها على البحث عن العائد، ساعدت الظروف النقدية المتساهلة في خفض علاوة المخاطر لجميع أنماط الأصول، ولكن كما حذر كلاوديو بوريو وويليام وايت، من بنك التسويات الدولية، فإن هذا من شأنه أن يعجل بالدورة المالية، وعلاوة على ذلك، كان الوعد بسيولة وفيرة سبباً في زيادة الإنفاق بالاستدانة، سواء بشكل صريح أو ضمني، لأن المقترضين، الذين يراهنون على استمرار القدرة على الحصول على التمويل، ينظرون إلى تحمل المزيد من الديون على أنه مسعى منخفض التكلفة، ويشير هذا إلى أن النظام المالي أصبح أكثر هشاشة، وهو ما يساعد في تفسير لماذا تفكر بعض البنوك المركزية في تشديد السياسة النقدية رغم أنها لاتزال بعيدة عن تحقيق أهداف التضخم.

من الأمثلة المهمة للكيفية التي تساهم بها السياسات النقدية المتساهلة في إحداث الهشاشة المالية هو تأثيرها على الأسواق الناشئة، حيث يتدفق إليها رأس المال الساعي إلى تحقيق العائد، عندما تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة بشكل كبير، ثم يفر من تلك الأسواق عندما يبدأ إحكام السياسات النقدية. وكان "الخفض التدريجي للتيسير الكمي" في عام 2013 فاجعاً لبعض الأسواق الناشئة، لأنها لم تتمكن من التعامل مع ما أسفر عنه من تدفقات رأس المال الضخمة المفاجئة إلى الخارج.

من الشائع تشبيه رأس المال الأجنبي بالضيف الذي يتعين على الأسواق الناشئة أن ترحب به، وهي تفعل في أغلب الأمر، ولكن رأس المال الأجنبي كثيراً ما يأتي بشكل جماعي، ثم يرحل بشكل جماعي دون تحذير يُذكَر، ومثلها كمثل أي مضيف، تود الأسواق الناشئة لو تعلم متى من المتوقع أن يصل حشد ضخم من الضيوف، ومتى يعتزمون الرحيل؟، حتى يتسنى لها أن تخطط للأمر وفقاً لذلك، وعندما يقيم رأس المال قراره بالقدوم أو الرحيل على ما يحدث في مكان بعيد، فإنه بذلك يتصرف كضيف بغيض.

تُعَد التدفقات المصرفية عبر الحدود مُعضِلة بشكل خاص، فوفقاً لدراسة حديثة أجراها بالك برونينغ من بنك الاحتياطي الفدرالي في بوسطن وفيكتوريا إيفاشينا من كلية هارفارد لإدارة الأعمال، عندما يجري إحكام السياسة النقدية سرعان ما تنسحب التدفقات المصرفية عبر الحدود من الأسواق الناشئة، بسبب قِصَر فترة الاستحقاق على القروض المصرفية، فعلى النقيض من السندات التي يبيعها حائزون أجانب، والتي يمكن أن يشتريها مستثمرون محليون، قد لا يكون في الإمكان التعويض عن خفض الإنفاق من البنوك الأجنبية. وفي غياب الإقراض الإضافي من البنوك المحلية، تواجه شركات الأسواق الناشئة غالباً ضغوطاً ائتمانية.

حتى الآن تعلمت الأسواق الناشئة كيف تشق طريقها بصعوبة عبر فترات من انقلاب اتجاه تدفقات رأس المال، ببعض التكلفة التي تقع على عاتقها، ولكن هناك مناقشة عاجلة لابد من إدارتها حول المسؤولية التي تتحملها البنوك المركزية الرئيسية في العالم عندما تحدث مثل هذه الآثار غير المباشرة.

ماذا بعد؟

يتعلق سؤال أخير بالدور الذي يؤديه تفويض البنوك المركزية في تشجيع ذلك النوع من السياسات الاستثنائية التي شهدناها في السنوات الأخيرة، في الماضي كانت البنوك المركزية تقول لنا في الأساس: "أعطونا التفويض، ولا تفرضوا القيود على كيفية تحقيق ذلك التفويض"، ولكن رغم أن هذه الصيغة ربما كانت ناجحة إلى حد كبير، عندما كانت المشكلة الأساسية هي التضخم المرتفع، وعندما كانت الأداة الرئيسية لدى البنوك المركزية هي أسعار الفائدة (وبعض التعديلات الهامشية للسيولة)، فإنها لم تعد تعمل بعد أن أصبحت المشكلة التضخم المنخفض.

الواقع أن حرية العمل البعيدة المدى في غياب فهم علمي عملي للكيفية التي يمكن بها تحقيق التفويض تُعَد تركيبة بالغة الخطورة للبنوك المركزية، التي خضعت لضغوط شديدة لحملها على الإبداع؛ وفي الوقت نفسه، هناك أصول قليلة لا يمكنها شراؤها، وقِلة أقل من المقترضين الذين لا يمكنها تمويلهم.

عندما تشتمل السياسات النقدية الظاهرة بشكل متزايد على عنصر مالي، فربما تنتهي الحال بالبنوك المركزية إلى ممارسة وظيفة تسمية الفائزين ومعاقبة الخاسرين، وبعد ذلك يُصبِح الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يبدأ الساسة في التساؤل لماذا تتمتع البنوك المركزية بكل هذا القدر من الحرية، وفي حين كانت تقوم بكل ما يلزم لتحقيق تفويضها، فربما عرضت البنوك المركزية نفسها دون قصد لتدقيق سياسي أوثق ومخاطر أعظم تهدد استقلالها وقوتها.

من خلال القيام بكل ما قامت به للتعويض عن التقاعس السياسي في بداية الأزمة المالية عام 2008، أقحم القائمون على البنوك المركزية أنفسهم في دائرة الضوء السياسية، وهُم أبطال بكل تأكيد لأنهم تدخلوا لتخفيف الأزمة، ولكن الساسة لا يحبون الأبطال الأقوياء غير المنتخبين، فمع رطانتهم التي لا تُسمَع إلا بين حاملي شهادات الدكتوراه، واجتماعاتهم السرية في أماكن متفرقة مثل بازل وجاكسون هول، يشكل القائمون على البنوك المركزية النخبة العالمية الجوهرية العديمة الجذور، التي يحب القوميون الشعبويون كرهها، وكان هذا صحيحاً حتى قبل أن تبدأ البنوك المركزية تشديد السياسة النقدية.

بطبيعة الحال يفضل القائمون على البنوك المركزية تجنب أي مناقشة لوظيفتهم أو تفويضهم، ولكن بدلا من الانتظار والأمل في أن تتحرك أضواء الرأي العام إلى مكان آخر، فمن الأفضل لهم أن يقوموا بإجراء تقييم دقيق لسياساتهم على مدار السنوات القليلة الماضية، ويتحتم على السلطات النقدية أن تبتكر تفويضا معقولا ويمكن تحقيقه، وأن تنشئ مجموعة من الإجراءات والتدابير المسموح بها في تحقيق تفويضها، وإلا فإن عام 2018 سيكون مجرد بداية لا نهاية، لعصر جديد شجاع من السياسة النقدية.

● عندما تبدأ البنوك المركزية تقليص ميزانياتها العمومية في عام 2018 ستُعاد السندات الطويلة الأجل إلى السوق وستُمحى حيازات السوق من الاحتياطيات الفائضة

● حرية العمل البعيدة المدى في غياب فهم علمي عملي للكيفية التي يمكن بها تحقيق تفويض السياسات الاستثنائية تُعَد تركيبة بالغة الخطورة للبنوك المركزية

* راغورام راجان

* محافظ بنك الاحتياطي الهندي في الفترة من 2013 إلى 2016، وأستاذ الموارد المالية في كلية بوث لإدارة الأعمال في جامعة شيكاغو.

"بروجيكت سنديكيت، 2017" بالاتفاق مع "الجريدة"