ليثيوم
هناك جدل قديم، وربما لا يزال يتجدد، حول كون الفنون تحقق الغاية الجمالية أم النفعية. ولم يكن الأدب بمعزل عن هذا الجدل، إن لم يكن أكثر الفنون مناورة حول هاتين القيمتين؛ الجمال والمنفعة. وأنا بصدد قراءة المجموعة القصصية (ليثيوم) لتميم هنيدي، كانت تتمثل أمام ناظري وذهني حقيقة تمكُّن الكاتب من المزج بين متعة القراءة، وتمرير رسائل ومعلومات مهمة عن أشد الأمراض النفسية انتشاراً وفتكاً بأرق الأرواح وأكثرها فتوّة وجمالاً. فكانت المجموعة بكاملها عبارة عن متتالية قصصية متآزرة ومتشابكة يجمعها موضوع واحد، لكن بتنويعات مختلفة.وبقدر ما كانت القصص تُبنى بحرفنة فنية ولغة متمكنة، كانت أيضاً تنشر ظلالها الإنسانية الغامرة، وتدق أجراساً عالية في وديان اللامبالاة والجهل بمرض كثر ضحاياه في كل مجتمع وبيئة وعائلة، وهو ما يُسمى باضطراب المزاج ثنائي القطب. وهو ليس مجرد اضطراب مزاج عابر، أو مسحة من الكآبة المؤقتة، إنما هو مرض مزمن يلازم المريض مدى الحياة، وله أعراض وآثار فادحة على المرضى وأسرهم، إذا لم يتم التعامل معه مبكراً، والتخفيف من آثاره بالعلاجات اللازمة. ويبدو لي أن المنطلق الإنساني، المتمثل بالحنو على عذابات النفس الإنسانية ومآزقها النفسية والروحية كان وراء هذا العمل، والمحفّز على إنجازه بتلك اللمسات الممتلئة بالحَدْب والفهم. فقد أوضح الكاتب في نهاية مجموعته أنه وجد نفسه وجهاً لوجه مع تلك الحالات التي كان قريباً منها ومحاذياً لعذاباتها المريرة.
في المجموعة كذلك عرض وافٍ لأعراض المرض، ونقل للمشاعر والأحوال والمعاناة. لكن ما جعل الكتابة فناً ورسالة بالغة الإنسانية، هو الاشتغال على صياغة تلك المشاعر والأحوال وصنوف المعاناة بأدوات فنية ولغة أدبية "بعيدة عن التوعية الطبية التقليدية"، كما يقول الكاتب. ولعل هذا التوجه يُحسب للكاتب كابتكار موفق يجعل من الأدب مجالاً نفعياً إلى جانب رسالته الجمالية. فقد اتخذ من ضحايا هذا المرض أبطالاً لقصصه، يتابع يومياتهم وأمزجتهم وتقلباتهم، ودخولهم إلى سراديبهم المظلمة، أو خروجهم منها حين تنقلب بهم الأحوال نحو هوس السعادة الخرقاء والطاقة المفرطة المتوهجة بالإبداع. عالمٌ تمتزج فيه الغرابة والعذاب والوحشة، وتنمو فيه الزهور السوداء والأشواك جنباً إلى جنب، وتتجاور فيه ضفتا الحياة والموت في كل آن. نرى ذلك في أحوال "راما" اليومية بطلة قصة "كاميرا المينيا"، التي تتناوبها أحوال الكآبة وأعراض الانتكاسات التي من الممكن أن تحدث في أي وقت. ونراه لدى "ريان" بطلة قصة "حلم آخر صيف"، التي تنقلب لديها الأحوال من موات وذبول إلى تلبّس غامر لشخصية خارقة للعادة في مواهبها وحضورها، ثم انحسار ذلك فجأة إثر انتكاسة كافرة تجعلها تختفي من المشهد الحياتي كلياً. أما في قصتي "مونولوج" و"ليس الليلة، لكن قريباً"، فقد اقترب الكاتب من أشد أعراض المرض فداحة، وهو الانتهاء إلى الانتحار، الذي يبدو من وجهة نظر المريض أقل وطأة على نفسه من المضي في حياة بتلك النوعية: "هناك عالم مبهم لا يعرفه سوى من تردد عليه مراراً، لا أشجار هناك، ولا أنهار، ولا بشر، لا أصوات سوى فحيح الأفاعي، لا لون سوى السواد، عالم قاتم لا يشبهه شيء. هناك تغدو كقط مطرود جائع، لا صديق ينتشلك من قاع التراب، ولا أغنية تدخل الروح. هل جربتَ أن تصعد جبلاً شاهقاً وتنظر إلى القاع الذي سوف يستقبلك جسداً محطماً؟ هل لك أن تتخيل ما الذي يدور في خلد الشخص الذي يقدم على الانتحار حتى يرى في هذه النهاية خلاصاً أقل ألماً من المضي في هذه الحياة ليوم إضافي واحد؟". مجموعة "ليثيوم" تدور حول فك التابوهات عن هذا المرض النفسي الذي طالما عومل كوصمة عارٍ يُستحسن غضّ البصر عنه، والتعامل معه ومع مرضاه بسرية وحذر، وتجنب الخوض في موضوعه، لأنه مجلبة خزي للمريض وأسرته. وإن كان العالم المتحضّر استطاع أن يتجاوز هذا الجهل، وأن يتحدث بشفافية صريحة عن المرض، فإننا لا نزال نراوح في المكان، ونربط المرض بالخزعبلات والمسّ والجن والغيبيات، علماً بأن المريض يمكن أن يعيش حالة طبيعية ويكون شخصا منتجا ومتميزا في مجاله، إذا وجد الاهتمام باكراً وداوم على العلاج. ولعل في إطلاق هذه المجموعة القصصية (ليثيوم) - والتسمية تشير إلى اسم الدواء الأشهر المستخدم في العلاج – يشكل بداية الطريق نحو الاستنارة والفهم، علماً بأن المجموعة كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة القصة القصيرة التي تبناها الملتقى الثقافي، ودعمتها الجامعة الأميركية في الكويت، وفاز كاتبها بجائزة مالية قُدمت له في احتفالية الجائزة أخيرا بالكويت.