الصفقات مع «داعش» نهج إيراني بامتياز
تشكل الصفقات بين أميركا وروسيا وحلفائهما أحد جوانب الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول غياب آثار المعارك التي يعلن عنها بانتصارات على "داعش"، إذ إن المشترك في الصور التي تعرضها وسائل الإعلام في المناطق المحررة من "داعش" بقايا مدن تم تدميرها وتسويتها بالأرض، فيما لا جثة لمقاتل ولا لبندقية مكسورة ولا آلية معطوبة.
برزت مؤخرا العديد من التصريحات التي تدّعي هزيمة الدولة الإسلامية عسكرياً في معاقلها في الموصل والرقة وفي البوكمال على الحدود السورية العراقية، كما تطرح اليوم تساؤلات متجددة حول دلائل هزيمة تنظيم "داعش" من جثث وأسلحة ومعسكرات ومعتقلين. هذا الغموض أوجد مساحة واسعة لمن لا يمتلكون أدلة كافية باتهام جهات عديدة بالوقوف وراء التنظيم ودعمه، خصوصا أن قوافل "داعش" تجوب الصحراء مكشوفة بين سورية والعراق، بما فيها قوافل النفط، وفي ظل العودة السريعة لـ"داعش" إلى المناطق التي يتم الإعلان عن هزيمته فيها، وحجم الصفقات الواسعة التي تعقد مع التنظيم، يتمّ تأمين منافذ ينتقل بموجبها "داعش" إلى مناطق أخرى بحماية خصومه.فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية تم تبادل اتهامات بين الخصوم في العراق وسورية بعقد صفقات مع "داعش"، يشترك فيها جميع الخصوم (إيران وحزب الله والنظام السوري وقوات سورية الديمقراطية وتركيا وأميركا)، بعضها معلن كما في صفقة حزب الله وصفقات نظام الأسد مع "داعش"، وآخرها ما تردّد عن صفقة بين الجيش السوري و"داعش"، مقابل إطلاق سراح جنود سوريين وقعوا في كمائن "داعش"، وصفقة تركيا في العراق لإطلاق سراح جنود أتراك، والعديد من الصفقات ما بين الحشد الشعبي العراقي- الذي تهيمن عليه إيران- و"داعش" في العراق، بإشراف من قاسم سليماني والحرس الثوري الإيراني.
ومن المعروف أن تلك الصفقات مستمرة منذ فترة طويلة، وقد طرحت الكثير من الشكوك، منذ يونيو 2014، حينما اجتاح "داعش" مساحات واسعة في شمال ووسط العراق، ووصل بعض قطاعاته إلى مشارف بغداد، بعد انهيار هوليودي لقطاعات الجيش العراقي، إبان قيادة نوري المالكي للحكومة العراقية، وكان رد ترويكا الحكم الشيعي العراقي، اندفاعة سريعة بتشكيل "الحشد الشعبي العراقي" بفتوى صدرت عن المرجع الديني آية الله علي السيستاني. وتم تشريع هذا الحشد الذي يضم نحو 70 ميليشيا مسلحة، تؤكد معلومات خبراء عراقيين أن ما يزيد على نصفها موال للمرشد الأعلى للثورة السيستاني تمويلا وتسليحاً وتدريباً، وتلتزم بأوامر وتعليمات المرشد، ولا يملك رئيس الوزراء العراقي أي سلطة عليها، وخاضت هذه الميليشيات غالبية الحروب مع "داعش" في العراق، وانتقلت إلى سورية، تحت قيادة قائد فيلق القدس "قاسم سليماني".يجمع خبراء الإرهاب والحرب أن إمكانات "داعش" البشرية والعسكرية لم تكن لتؤهله حينما اجتاح نحو نصف مساحة العراق، لتحقيق ذلك لولا أن هناك مساعدات قدمت من طرف ما ساهمت على الأقل في فتح الطريق له للقيام بهذه الخطوة، خصوصا أن تحقيقات مع قادة التشكيلات العراقية لاحقا أدانت قادة عراقيين كبارا بتهمة التهاون في مقاومة داعش. ومعلوم أن اجتياحات "داعش" تزامنت مع احتجاجات واسعة في غرب العراق على طائفية حكومة المالكي، واحتجاجات في مناطق الجنوب ضد التكتلات السياسية "الشيعية" في الحكم، على خلفية فشل الحكومات في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وظهور شعارات تتمنى عودة أيام نظام البعث السابق "صدام حسين"، ولم يكن بالإمكان ظهور الحشد الشعبي العراقي لولا ظهور "داعش".ربما تشكل تلك الصفقات أحد جوانب الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول غياب آثار المعارك التي يعلن عنها بانتصارات على "داعش"، إذ إن المشترك في الصور التي تعرضها وسائل الإعلام في المناطق المحررة من "داعش" بقايا مدن تم تدميرها وتسويتها بالأرض، فيما لا جثة لمقاتل ولا لبندقية مكسورة ولا آلية معطوبة، ثم ما تلبث أن تظهر بعد أيام في منطقة مجاورة. وعلى هامش تلك الصفقات يلاحظ أولا: يعلن المتصارعون في سورية جميعهم أنهم يحاربون "داعش"، ويتعرض "داعش" لضغوط عسكرية لأكثر من حملة، تشترك فيه كل من أميركا وروسيا وحلفائهما، في غمار حرب إعلامية حول تسجيل السبق بقتل "أبو بكر" البغدادي الذي يفترض انه مات أو تم إلقاء القبض عليه أكثر من مرة في سورية وفي العراق. وثانياً: باستثناء ما يتردد عن صفقة سورية الديمقراطية مع "داعش" والتي أنكرتها قوات سورية الديمقراطية واعتبرتها "ادعاءات وأكاذيب تهدف للنيل من سمعة قوات سورية الديمقراطية ورفع معنويات الإرهابيين"، فإن بقية الصفقات تمت من حلفاء إيران، خصوصا الجيش السوري وحزب الله اللبناني.إن الصفقات التي تقوم بها تلك المجموعات في ساحات العمليات في سورية والعراق استراتيجية ثابتة في العقل الإيراني، منذ الصفقة الإيرانية الكبرى مع القاعدة عام 2001 بعد حرب أفغانستان باستقبال قيادات وكوادر القاعدة في طهران، وفي العراق لاحقاً حيث زوّدت إيران القاعدة بالأسلحة مقابل عدم التعرّض للمراقد المقدسة، وقد وفرت القاعدة لإيران أسباب إنشاء الحشد الشعبي العراقي والسيطرة على العراق، وحولت الثورة السورية من ثورة شعبية ضد الظلم والفساد إلى مواجهة بين النظام السوري والإرهاب، وقد أصبح واضحا أن وكلاء إيران هم من يخططون لانتشارات داعش ويوفر له الملاذات الآمنة، بما يضمن إبقاءه مهدداً، لأنّ أي استقرار في العراق أو سورية، يعني فتح ملفات إيران وأسباب وجودها.وفي الخلاصة فإن عقد صفقات مع "داعش" في مسرح العمليات في سورية والعراق، من قبل وكلاء إيران يطرح تساؤلات عميقة حول نجاعة استراتيجيات مكافحة الإرهاب، في ظل شكوك عميقة بإمكان تحقيق نجاحات ملموسة، ويؤشر لإمكانية بقاء "داعش" و"القاعدة" في ظل علاقتهما مع إيران، ومن المرجّح أن تفتح "القاعدة" ساحات قتال جديدة في مناطق أخرى، خارج سورية والعراق، لإبقاء الإرهاب عنواناً دوليا.* عمر الرداد عميد سابق في مديرية المخابرات العامة الأردنية ومحاضر في الأمن الاستراتيجي.
عقد صفقات مع «داعش» في سورية والعراق من وكلاء إيران يطرح تساؤلات عميقة حول نجاعة استراتيجيات مكافحة الإرهاب