منذ تفجر الغضب الشعبي في عام 2011 والأوضاع السياسية في المنطقة العربية مضطربة وغير مستقرة، فمن دمار بشري وبيئي فظيع نتيجته فوضى عارمة في سورية واليمن وليبيا إلى تناحر طائفي وعرقي في العراق، وعدم استقرار سياسي وأمني في المغرب العربي، ودكتاتورية عسكرية في مصر، مروراً بتململ وعدم رضا شعبي في منطقتنا. الأوضاع السياسية لن تستقر، كما ذكرنا من قبل، ما دامت أسباب الثورات والانتفاضات والاحتجاجات والمطالبات الشعبية التي أطلق عليها إعلامياً تسمية "الربيع العربي" قائمة، وإن بدرجات مختلفة من دولة لأخرى، ولا سيما احتكار السُلطة والثروة، وارتفاع معدلات البطالة والفقر والتهميش السياسي، وغياب العدالة الاجتماعية.
والصراع السياسي العنيف الدائر حالياً والذي يرافقه في بعض الدول مثل سورية وليبيا واليمن والعراق، إلى حد ما، دمار شنيع وأحداث دموية مؤسفة، ليس سببه "الربيع العربي" مثلما تُروّج بعض وسائل الإعلام الرسمية وبعض الكُتّاب، بل هو صراع شرس ودموي أحياناً على السُلطة بين قوى ثورة مضادة ومناهضة لمطالب الشعوب العربية التي تحركت آنذاك بشكل عفوي، حيث يمثل الطرف الأول الأنظمة القديمة التي ترفض التغيير الديمقراطي، وانتهت صلاحية بعضها، لذلك فهي تستخدم ما تستطيع من قوة سواء ناعمة أو عنيفة لإسكات الناس حتى لو وصل الأمر إلى قمعهم مباشرة والزج بهم في السجون تحت ذرائع الإخلال بالأمن، والمقصود هنا هو أمن الحزب الحاكم لا أمن الدولة الوطنية. أما الطرف الثاني فهو جماعات الإسلام السياسي (السنّية والشيعيّة) التي نشأت وتمددت سياسياً تحت رعاية الأنظمة التقليدية، ولا تختلف عنها من الناحية الاقتصادية (النيوليبرالية ونظام السوق المتوحش)، كما تشابهها في رفض قيم الديمقراطية والمدنية والتحضر، ولكن عينها مصوبة باتجاه كرسي الحُكم تريد الوصول إليه في أقرب فرصة ممكنة وبأي وسيلة كانت؛ كي تحتكر السُلطة من أجل تنفيذ مشروعها الرجعي الذي يعود تاريخه إلى قرون ماضية.إذاً، فالمجرى العام للصراع السياسي، الدموي أحياناً، الذي نراه حالياً في المنطقة هو صراع على السُلطة بين أطراف قوى ثورة مُضادة بعضها مدعوم إقليمياً ودولياً، وهو يُغطّي على الصراع الحقيقي ويؤجل عملية التغيير الديمقراطي السِلمي، خصوصاً أن بعض قوى التغيير المدني الديمقراطي ما زالت تصطف سياسياً مع أحد طرفي الثورة المُضادة تحت تبريرات ضعيفة وباهتة، إلى درجة أن عدداً كبيراً من الناس لم يعودوا يُفرّقون بينها وبين قوى الثورة المضادة. والخروج من هذا الواقع البائس يتطلب، كما ذكرنا مراراً، اصطفافاً مدنياً ديمقراطياً عريضاً وواضحاً وصريحاً يتولى طرح مشروع لدولة مدنيّة ديمقراطية عصرية وعادلة اجتماعياً مع الأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة وظروف الواقع وضرورة تماسك الدولة الوطنية، فهل تقوم قوى التغيير المدني الديمقراطي بواجبها الوطني، أم أنها ستظل مُفككة ومُشرذمة وضعيفة؟
مقالات
اصطفاف مدني ديمقراطي مرة أخرى
27-12-2017