يراهن عدد من دول الخليج على مشاريع ضخمة جداً ضمن مساعي تنويع مصادر الدخل في الميزانية، والخروج من هياكل الاقتصاديات التقليدية القائمة على النفط إلى نماذج متعددة تجارية وسياحية وصناعية وأخرى تستقطب الاستثمار الأجنبي من خلال تأسيس ما يعرف بـ"مدن الأحلام" بقيم تصل إلى مئات المليارات من الدولارات.

والأحلام بالنسبة إلى الدول إما أن تكون طموحاً قابلاً للتحقق، كما حدث في منتصف القرن الماضي بالنسبة إلى سنغافورة التي تحولت خلال أقل من 35 عاماً من دولة متخلفة وفقيرة إلى نموذج للتطور والنجاح، وكذلك هونغ كونغ تلك المستعمرة التي تحولت أيضاً من الفقر والجهل إلى قبلة عالمية صناعية وتكنولوجية وتعليمية، وإما أن تفشل أو على الأقل تتعرض لصدمة قوية، كالتي تعرضت لها إمارة دبي في عام 2009 نتيجة لتعثرها عن سداد التزاماتها المالية، فلم تعد إمارة "الأحلام" بعد تلك الصدمة كما كانت قبلها، فضلاً عن أن فشل المدن الاقتصادية والمشاريع غير التقليدية، وهي الأصغر من مدن الأحلام، يعد أمراً دارجاً في الإقليم نتيجة لانحراف السياسات عن الهدف الأساسي للمشروع، مثلما حدث في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في السعودية، والمدينة السياحية الزرقاء في سلطنة عمان، أو لتعثر في التمويل كمشروع جزر العالم في دبي.

Ad

«الحرير» و«نيوم»

اليوم في الخليج يبرز مشروعان على صيغة مدن الأحلام، الأول مشروع تطوير الجزر ومدينة الحرير في الكويت، والثاني مشروع "نيوم" في السعودية بتكاليف ضخمة من مليارات الدولارات، ويرتكز كلاهما على رؤية دولته (الكويت 2035 - السعودية 2030)، ولعله من الظلم والتشاؤم الحديث عن فشل أي من المشروعين لصعوبة الجزم بالنتيجة قبل بداية التطبيق، غير أنه من التسرع والتفاؤل المفرط أيضاً القول إن النجاح حتمي لأي منهما بمجرد إعلانهما، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مشروع الكويت "الجزر - الحرير" لم يعلن بشكل كامل من حيث الأرقام والكلفة والأهداف والهوية، فضلاً عن القانون الذي كان مثار جدل من حيث الصلاحيات الواسعة غير المبررة للجهاز الذي يدير المشروع.

حصافة الفرضيات

لذلك، فإن ثمة محددات هي من تشير إلى نجاح أي من مدينتي الأحلام في المنطقة، أهمها سلامة وحصافة الفرضيات التي تؤسس عليها المدينة مثل مراعاة التباطؤ أو النمو المتوقع في الاقتصاد العالمي، ووضع مصدات تمتص أي تعثر عالمي أو إقليمي اقتصادي أو جيوسياسي، فضلاً عن تحاشي مخاطر التوسع في الاقتراض على المديين القصير والمتوسط لتمويل مشاريع طويلة الأجل، إلى جانب عدم المبالغة في خلط مجموعة هويات اقتصادية وتجارية في مشروع واحد ينعكس سلباً على الأداء المفترض لهذه المدن، وأن يكون الاستثمار الأجنبي وسيلة لجذب التكنولوجيا وإيرادات الضريبة وفرص العمل وليس غاية في حد ذاته.

القيمة التنموية

مدن الأحلام لا قيمة حقيقية أو تنموية لها ما لم تكن مفيدة في إصلاح مشكلات الاقتصاد العميقة لا عبئاً عليها، فكل دول الخليج تعاني اختلالاً لافتاً في تركيبتها السكانية بمعدل يبلغ 52 في المئة للمواطنين في الخليج مقابل 48 في المئة للوافدين لعام 2015، مع أن المعدل في عام 2000 كان 65 في المئة للمواطنين و35 في المئة للوافدين، ويظهر الخلل في التركيبة بوضوح في الكويت بنسبة 69.73 في المئة للوافدين مقابل 30.27 في المئة للمواطنين وبدرجة أفضل في السعودية، إذ يشكل مواطنوها نحو 68 في المئة من إجمالي التركيبة السكانية، ومن ثم فإن على راسمي سياسات "مدن الأحلام" بيان خطط معالجة هذه المدن لملفات التركيبة السكانية ليس على سبيل الكم فحسب، بل على النوع أو الكفاءة أيضاً، إذ تشير بيانات الكويت- على الأقل- إلى أن نحو 45 في المئة من العمالة الوافدة في الكويت من محدودي التعليم من فئة "دون المتوسط".

النفط وإيراداته

من المعروف أن 4 من 6 دول خليجية تعتمد في إيراداتها بشكل جوهري على النفط بنسب تتراوح بين 60 و90 في المئة، وأن الكويت والسعودية تعتبران من فئة الأكثر اعتماداً عليه بالنسبة القصوى "مع احتساب مبيعات الغاز والمنتجات البترولية والمكررة"، ومن ثم يجب أن تكون هذه المدن على الأقل في المدى المتوسط ليست بديلاً عن المداخيل النفطية، بل رديفاً متنامياً يقلل من مخاطر دول المنطقة في الاعتماد على النفط كمصدر شبه وحيد للإيرادات، وهذا أمر لا يتطلب وعوداً مستقبلية بقدر ما يتطلب وضع خطط محددة لتنمية الإيرادات غير النفطية، وأثرها في الميزانية والناتج المحلي والاقتصاد.

البطالة والعمل

وفي الوقت الذي تتأرجح نسب البطالة في الخليج ما بين نصف و15 في المئة (الكويت 2.5 في المئة والسعودية 10 في المئة) فإن المنطقة تعتبر من أعلى دول العالم في معدلات النمو السكاني بمعدل سنوي يبلغ 3.5 في المئة، وهذا لا يؤثر في حجم سوق العمل المتوقع على مدى منظور الرؤيتين في 2030 و2035 من حيث حجم الداخلين إلى سوق العمل فحسب، بل أيضاً على قدرة هذه المدن على خلق فرص عمل حقيقية متنوعة بالقطاع للجيل القادم من مواطني الدولتين، وربما الخليج، مع العلم أن حكومات المنطقة توظف العمالة الوطنية بواقع ثلثي إلى 90 في المئة.

نجاح مدن الأحلام وتحول الرؤى البعيدة المدى إلى نتائج أمر مطلوب وضروري، غير أن تحويله إلى واقع يحتاج إلى مصداقية والتزام ببيانات ربع سنوية وفصلية تبين مدى اتساق العمل مع الأهداف، إذ إن الرهان على مشروعات يتجاوز مداها 10 سنوات دون رقابة أو متابعة سيجعل المشروع الاقتصادي رهينة لمشروع الحكم، فلم تنجح سنغافورة وهونغ كونغ في تحدياتهما إلا عندما وظفتا مشاريع التحول الاقتصادي لمصلحة الاختلالات الأساسية في اقتصادياتهما لا سيما البطالة والتعليم.