في عام 2017 أصبح الفساد عبارة متداولة في عالم السياسة، في كل قارات العالم تقريباً، وباتت هذه الكلمة تؤطر للعمل الحكومي في بلدان مختلفة بقدر الاختلاف بين الصين والمملكة العربية السعودية والبرازيل، وكان الفساد وما صاحبه من فضائح سبباً في إطاحة رؤساء دول ورؤساء وزراء، واجتثاث قادة المعارضة السياسية، وتغذية الثورات «الشعبوية» في مختلف أنحاء العالم. وبغياب المساءلة عن سوء السلوك الرسمي الجهازي، يُصبِح عصرنا الحالي، الذي يتسم بالاضطرابات السياسية، غير منطقي وبلا معنى، ببساطة.في البرازيل، لا تزال التحقيقات جارية فيما أطلق عليه أحد القضاة وصف «مخطط للفساد الجهازي» بين الموظفين العموميين وشركة النفط البرازيلية العملاقة بتروبراس، ونتيجة لهذه التحقيقات جرى توجيه الاتهام إلى الرئيسة ديلما روسيف وعزلها من منصبها في أغسطس 2016، كما دين الرئيس الأسبق لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، وصدر في حقه حكم بالسجن في يوليو من هذا العام.
على نحو مماثل، أدت قضية فساد في كوريا الجنوبية إلى توجيه الاتهام إلى الرئيسة باك جون هي وعزلها من منصبها في مارس، فضلاً عن سجن لي جاي يونغ، الوريث المنتظر لشركة سامسونغ، في أغسطس.وفي باكستان، أصدرت المحكمة العليا في يوليو قراراً بخلع رئيس الوزراء نواز شريف، وهو الآن يواجه اتهامات بالفساد على خلفية مشتريات عقارية في لندن، التي تشير المزاعم إلى أنه قام بها في تسعينيات القرن العشرين عن طريق شركات في الخارج وباسم أبنائه، وظلت هذه الأصول غير معلنة إلى أن جرى الكشف عنها في تسريب «أوراق بنما» في عام 2015.وفي روسيا، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، يزدهر الفساد في مفاصل الدولة وسياساتها والشركات الكبرى، في حين ينفذ أنصار حُكم القِلة أجندات بوتين السياسية على نحو جدير بالثقة، ولكن الفساد يُصَدَّر أيضاً. الواقع أن بوتين ينشر صيغته من معاداة الليبرالية، والقومية، والاستبداد إلى دول الاتحاد السوفياتي السابقة وأوروبا، بل حتى الولايات المتحدة.وفي المجر، كانت مزاعم المحسوبية تطارد رئيس الوزراء فيكتور أوربان، الذي عمل على تعزيز قبضته على السلطة، من خلال رعاية علاقات وثيقة مع أنصار حكم القِلة في البلاد.كما وثقتُ على مدى السنوات العشر المنصرمة، فإن الفساد لا يقتصر على الكسب غير المشروع أو المعاملات غير المشروعة، بل يشمل أيضاً انتهاكات قانونية للثقة العامة، والتي يرتكبها غالباً أفراد ينتمون إلى «نخب الظِل» الذين يتولون كتلة متشابكة الخيوط من الأدوار في القطاعين العام والخاص، وفي الوقت نفسه أحياناً.ولم يكن تكاثر المسؤولين الذين يلاحقون مصالحهم الشخصية ويتهربون من المساءلة خافياً عن عامة الناس، ففي الولايات المتحدة كان ما أسميه «الفساد الجديد» مصدر قلق رئيساً لدى كل من حزب الشاي على اليمين وحركة «احتلوا وول ستريت» على اليسار، وقد اعترضت كلتا الحركتين على عملية إنقاذ «وول ستريت» في عام 2008، واعتبرتاها دليلاً على التلاعب بالنظام.في كل من السنوات الثلاث الفائتة، وجَدت «دراسة مسح المخاوف الأميركية» التي تجريها جامعة تشابمان أن المخاوف بشأن الفساد تفرض على أذهان الأميركيين وأنفسهم حِملاً أثقل من الجريمة أو الإرهاب أو وفاة أحد أفراد الأسرة. وقد فاز دونالد ترامب بالرئاسة في عام 2016 جزئياً من خلال استغلال هذه المخاوف، ولكن على الرغم من وعده بتصفية المستنقع، أنفق ترامب عام 2017 بالكامل في توسيع وتعميق ذلك المستنقع، والواقع أن كل من تربطهم صِلة بترامب بكل أشكالهم وجدوا عملاً وزادوا من ثِقَلِهم في مركز جماعات الضغط في واشنطن، بل إن بعض هؤلاء سعوا إلى ممارسة الضغوط لمصلحة قوى أجنبية، برغم أن المرشح ترامب شن حملة شجب وإدانة لمنافسته على خلفية نفوذ أجنبي مفترض. وعلاوة على ذلك، عمل ترامب على تجميع فريق من المستشارين الذين تربطهم صلات مباشرة بالقطاعات التي يفترض أن يشرفوا عليها، فضلاً عن أفراد ينتمون إلى جماعات ضغط سابقاً، بمن في ذلك بعض العاملين لمصلحة أنظمة أجنبية. حتى إن ترامب ذاته عمل على صبغ الفساد العام بمستوى من البريق والتوهج غير مسبوق في أميركا في عقود من الزمن، إن لم يكن على الإطلاق.بين انتهاكاته العديدة لثقة جماهير الناس، رفض ترامب التخلي التام عن حيازاته التجارية أو الإفراج عن عائداته الضريبية، كما زرع أفراد أسرته في مواقع رسمية وغير رسمية قوية.وعلاوة على ذلك، استغل بعض أعضاء حكومة ترامب الموارد العامة لاستخداماتهم الشخصية والخاصة. وحتى الآن، كان المسؤول الوحيد الذي خضع للمساءلة عن مثل هذه الانتهاكات هو توم برايس، الذي استقال من منصبه كوزير للصحة والخدمات الإنسانية في سبتمبر، بعد أن أوردت منافذ إعلامية في تقاريرها أنه تقاضى من دافعي الضرائب رسوماً عن رحلات الطيران المستأجرة المتعددة.وقد يواجه ترامب وزملاؤه اتهامات خطيرة بالفساد في نهاية المطاف، اعتماداً على ما قد يتوصل إليه مدير مكتب التحقيقات الفدرالي السابق روبرت مولر، في تحقيقه المتزايد الاتساع في التدخل الروسي في انتخابات 2016. وبالفعل، وجه مولر الاتهامات ضد رئيس حملة ترامب الانتخابية السابق، بول مانافورت، وزميل مانافاورت لفترة طويلة ريك غيتس، ويعرب العديد من المراقبين عن شكوكهم في إمكانية استمرار إدارة ترمب حتى نهاية الفترة الانتخابية في عام 2020.ولكن ينبغي لنا أن نحذر المواطنين من فترة طويلة من عدم اليقين تأتي عادة في أعقاب إيقاع جهود مكافحة الفساد لمسؤولين كبار. على سبيل المثال، حظي التحقيق الواسع النطاق في مكافحة الفساد في البرازيل بقدر كبير من الثناء والإشادة على الصعيد الدولي، ولكنه لم يتمكن من استعادة الاستقرار السياسي أو المالي، بل على العكس من ذلك، وفقاً لمجلس العلاقات الخارجية، تعاني البرازيل الآن «حالة غير مسبوقة من عدم الرضا من جانب الناخبين»، ولا يبدو في الأفق زعيم واضح قادر على إعادة بناء الثقة العامة.الواقع أن ما يترتب على تحقيقات مكافحة الفساد يعتمد إلى حد كبير على السياق السياسي والاقتصادي في أي دولة. على سبيل المثال، لأن السلطة السياسية في باكستان تتقلب بشكل روتيني بين أفراد الأسرة، حاول شريف عند خلعه ترشيح أخيه خلفاً له، وفي سبتمبر انتُخِبَت زوجته لشغل مقعده السابق في البرلمان.وفي دول أخرى، استُخدِمَت تحقيقات مكافحة الفساد من أنظمة استبدادية لتحييد المعارضين، ففي يوليو نجحت جزئياً حكومة بولندا، التي يسيطر عليها حزب القانون والعدالة غير الليبرالي، في جهودها الرامية إلى إخضاع السلطة القضائية للسيطرة السياسية، بحجة أن المحاكم أفسدتها «النخب».وفي الصين، استخدم الرئيس شي جين بينغ ببراعة حملة مكافحة الفساد لتطهير المنافسين السياسيين، وتسوية الحسابات، وبفضل نظام الحزب الواحد تمكنت الصين من الإبقاء على مظهر الاستقرار خلال حملتها المتزايدة الصرامة، بيد أن بعض المحللين يزعمون أن الاستياء يختمر على نطاق واسع تحت السطح، وأن الفساد المستوطن بين النخب الحاكمة في البلاد يتسبب في تآكل قدرة النظام السياسي على الاستمرار.ويشير هذا إلى اتجاه واضح أخير هذا العام، والذي يتمثل بالمواطنين الذين يقاومون الفساد بأشكاله كافة، ففي بولندا أجبرت احتجاجات واسعة النطاق الرئيس على استخدام حق النقض ضد الكثير من محاولات حزب القانون والعدالة للاستيلاء على السلطة القضائية. وفي فنزويلا لم تنقطع الاحتجاجات ضد المحسوبية طوال العام، وفي روسيا نزل الآلاف من المواطنين إلى الشوارع للاحتجاج على نظام بوتين اللصوصي، وهو التحرك المستلهم جزئياً من عمل الناشط المناهض للفساد أليكسي نافالني، الذي كان عاكفاً على حشد المعارضة الروسية، من خلال حملة «المحتالين واللصوص» التي استهدفت حزب روسيا المتحدة وزعيمه بوتين.في العديد من البلدان في أيامنا هذه، ربما يكون النشاط المدني غائباً عن أغلب القضايا، ولكن قضية الفساد ليست بين هذه القضايا، فقد اهتم الناس بها بالدرجة الكافية لقلب السياسة رأساً على عقب في عام 2016، ومرة أخرى في عام 2017، ولا يوجد من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن عام 2018 قد يكون مختلفاً.* جانين ر. ويديل* عالِمة الأنثروبولوجي (علم الإنسان)، وأستاذة في كلية شير للسياسات والحكم في جامعة جورج ماسون، وهي مؤلفة كتاب «التحرر من المساءلة: كيف أفسدت المؤسسة مواردنا المالية، وحريتنا، وسياستنا، وكيف خلقت طبقة من الدخلاء».«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
الجذور الفاسدة للبلبلة السياسية
29-12-2017