عندما تقوم روسيا بغزو دول البلطيق فسوف تكون مدينة غدانسك البولندية أساسية في رد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يلعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعبة شطرنج كبيرة مع الحلف وحركته التالية سوف تتمثل في غزو دول البلطيق، وعندما يحدث ذلك فسيتعين على الولايات المتحدة تحريك قواتها المدرعة بسرعة إلى أوروبا عن طريق بولندا بغية منع انهيار «الناتو»، وسوف تواجه مشكلة في القيام بتلك العملية. ويتعين ملاحظة كلمة «عندما « التي قلتها، وليس « إذا «، ومن الواضح أن استراتيجية بوتين الكبرى تتمثل في إعادة بناء الامبراطورية الروسية عبر دول المصد في محاولة عقيمة لدرء المخاوف الروسية الثقافية المتعلقة بغزاة الخارج، ومن الواضح أيضاً أن بوتين الذي يسعى إلى ولاية رئاسية أخرى لن يتمكن من الانتظار، وقد فعل حتى الآن كل ما في وسعه من دون اثارة رد فعل من جانب «الناتو».
وقد خاض معركة ضد الغرب في الميادين السبرانية والاقتصادية والعسكرية، ومن غير الواضح ما إذا كان سوف يستخدم التكتيك ذاته في مهاجمة الناتو بصورة مباشرة، أو سيكتفي بتحويل الأسلحة واستخدام المناورات الروسية الضخمة مثل « زاباد 17 « التي أطلقها في هذه السنة كبداية للعمليات العسكرية، وفي الحالتين وعندما يقوم بحركته سوف تواجه دول الناتو صعوبة في الرد. وكان الحلف قلص انفاقه على الجوانب الدفاعية لفترة طويلة ما يجعل من الصعب عليه استعادة قدراته العسكرية السابقة بسرعة، كما أن عدة دول أطلسية خفضت من أنواع معينة من أسلحتها مثل الدبابات والغواصات ولم يعد لدى العديد من تلك الدول صناعة دفاعية يعول عليها إضافة إلى أن الدول التي لديها مثل تلك الصناعة تجد صعوبة في إنتاج أسلحة تلبي متطلبات القتال في الوقت الراهن.
تراجع الدور الأميركي
من جهة أخرى عمدت الولايات المتحدة وهي أقوى عضو في التحالف الأطلسي طوال سنوات إلى سحب قواتها المهمة من أوروبا والتي كانت تتمركز هناك بصورة دائمة، وعند نهاية الحرب الباردة كان لدى الولايات المتحدة 14000 دبابة وأكثر من 300 ألف جندي في أوروبا. وفي سنة 2013 وفي بداية الولاية الثانية لإدارة أوباما غادرت آخر تلك الدبابات أوروبا إلى الولايات المتحدة، وعند نهاية وجود أوباما في البيت الأبيض وبعد غزو روسيا للقرم والحرب مع أوكرانيا تقرر ارسال لواء مدرع أميركي إلى أوروبا على أساس دوري وليس بصورة دائمة. ويهدف هذا إلى القول بأنه عندما يقوم بوتين بغزو دول البلطيق فسوف يتعين على الولايات المتحدة ارسال قواتها إلى أوروبا عبر المحيط الأطلسي، وسوف تكون بولندا المكان المثالي لذلك الانتشار نظراً لوجود ميناء المياه العميقة فيها في غدانسك وقربها من جبهة البلطيق، ولكن تلك تمثل مشكلة حقيقية؛ فبحسب الوضع الآن لا تستطيع الولايات المتحدة ارسال قواتها إلى بولندا واحتفظت روسيا بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية بحامية في كاليننغراد في مثلث ضيق بين بولندا وليتوانيا، كما أقام بوتين هناك مجمعا مضاداً للسلاح يحتوي على صواريخ اس – 400 التي تطلق من الأرض إلى الجو إضافة إلى صواريخ اسكندر، وبوسع هذه الصواريخ تحييد القوات الجوية لحلف الناتو ومنع الوحدات البحرية الغربية من التقدم إلى ما هو أبعد من كوبنهاغن في بحر البلطيق بعيداً عن غدانسك ومنشآتها الصناعية المخصصة لتفريغ السفن.ومن شأن ذلك إجبار المدرعات الأميركية على التفريغ في فرنسا أو بلجيكا ثم نقلها عبر خطوط حديدية إلى أنحاء مختلفة من أوروبا وهو ما يتطلب تأخيراً يمتد لأسابيع تتمكن خلالها القوات الروسية من تثبيت أقدامها وفرض أمر واقع في المنطقة وهو ما حاولت القيام به في شبه جزيرة القرم، وإذا أرادت القوات الأميركية والأطلسية صد هجوم روسي بطريقة ناجحة يتعين على الناتو التخطيط لتفجير «فقاعة» المجمع المضاد للسلاح الروسي في كاليننغراد.ويجب أن يحتل الوصول إلى الموانئ في دول البلطيق وبولندا أولوية قصوى في حالة اندلاع حرب مع روسيا، ويمكن لهذا الهدف أن يتحقق عبر صواريخ «بلو» القادرة على ضرب كاليننغراد وتدمير الصواريخ الروسية قبل أن يعاد التزود بها، ويمكن أن تأتي صواريخ «بلو» عبر قوارب صغيرة تجوب بحر البلطيق أو من غواصات تستطيع العمل تحت مياه البحر الضحلة أو الجيل الخامس من الطائرات الهجومية المتقدمة القادرة على تفادي صواريخ اس – 400.الخطوة التالية
وإذا أمكن تحييد كاليننغراد فسيكون بوسع قوات الحلفاء دفع المدرعات والجنود والامدادات اللوجستية إلى ميناء غدانسك الذي سوف يوفر الفرصة لنجاح عمليات الناتو، وتعتبر «غدانسك» ميناءً صناعياً استثنائياً حيث تعج أرصفته المزدحمة بالرافعات الثقيلة التي تفرغ يومياً المئات من الأطنان من البضائع التي تتوجه إلى الأسواق الأوروبية، وتلك الرافعات سوف تمكن السفن الأميركية من تفريغ حملاتها والابتعاد قبل إعادة تزويد القوات الروسية بالسلاح.كما أن غدانسك قريبة من دول البلطيق، وهي ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا التي تسمح للقوات البرية الأميركية، بالتحرك على الفور نحو أهدافها الاستراتيجية، ثم إن الحفاظ على قدرة الوصول إلى الموانئ الرئيسية في البلطيق وبولندا يجب أن يشكل أولوية قصوى بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي في حال اندلاع حرب مع روسيا. وعندما يتقدم بوتين، كما أعرب عن نيته بهذا الشأن بصورة واضحة، فسوف يتعين على الحلفاء الرد بسرعة من أجل منعه من تعضيد مكاسبه وإقامة أمر واقع، وفي شمال أوروبا تعتبر كاليننغراد وغدانسك البيدقين الرابحين في لعبة الشطرنج، وسوف يتعين على «الناتو» أن يكون مستعداً للدفاع عن حجر الملكة لديه والقضاء على بيدق بوتين.