مقابلة مع الحزن نفسه
كنت أحتسي كوباً دافئاً من الشوكولاتة الساخنة في المقهى، وفجأة انتبهت لكائن عبوس مطأطئ الرأس، لا يتفاعل مع أحد، وكان يبدو خائر القوى هزيل الإرادة عديم الرغبة في الكلام، أشفقت عليه فصحت بصوتٍ عال من بعيد عليه، متجاهلاً متطلبات "الإتيكيت" العام: "تعال يا زعلان! حياك اجلس عندي!". جحظت عيناه وبدأت علامات التوتر تظهر عليه، فرفعت صوتي أعلى "تعال"، فأدرك أنه لا مفر مني، فإن أراد أن يتحاشى هذا الإحراج فعليه القيام من مقعده، ثم المضي باتجاهي ليجلس عندي وهذا ما فعله. عرفني بنفسه: أنا الحزن ذاته، فسألته ما كنت أود أن أسأله منذ سنين: "من الذي يراك تستحق الاحترام؟"، فاستمر في صمته وهو جاثم على الكرسي أمامي، فسألته سؤالا آخر لعله يجيب: "هل نفعت أحدا؟"، بدأ يدعك يديه، ثم رفع رأسه بهدوء باتجاهي وقال: "أكيد ستكون أسئلتك لي إقصائية، ولا أشك أنكم يا بشر تكرهونني، فأنا لم يذكرني الله في كتابه إلا وغالباً كان اسمي مسبوقاً بأداة النفي أو النهي، أنا مذموم لدى جميع الحكماء والعقلاء، ووجودي كدر للكل، وسيرتي ألم للجميع، يسعد الخلق بفراقي، وتُهكلني ضحكة، وتستفزني العفوية، عدوي اللدود هو المرح، وقاهري هو التفاؤل". تبسمت في وجهه، وبعدها قلت له: "يبدو أنك منزعج بكل من هو مشغول أو مندمج مع المجتمع والناس، فمن أصدقاؤك؟". فرد الحزن قائلا: "صديقي الملل، وزميلي القلق، أما حبيبتي فهي الخيبة، فإذا أردتني أن أكون معك، فلتكن آمالك غير منطقية، ولتكن طموحاتك غير واقعية، وأهم شيء لأكون خليصك في حلك وترحالك، اختر الأنانية عنوانا لحياتك، فلقد أكد الطب النفسي أن الوحدة هي أعنف ما يمكن أن يضر النفس طول المدة، فالله سبحانه وتعالى جعل هرمونات القلق ترتفع لدى مخلوقاته في حالة الوحدة، وتنخفض في حالة الجماعة، لأن في الجماعة يمكن التكاثر والتعاون والإسعاف". وفور انتهائه من كلامه، وصل صديقي الذي كنت أنتظره، فتلاشى الحزن وكأنه لم يكن.
يبدو أن من جعل الآخرة الأبدية همه وأهمل هموم الدنيا الفانية تخلص من كل العوالق التي تبطئ حركته وتزرع فيه التردد والخوف والقلق، فمن لا يكترث بالدنيا انغمس بخدمة الآخر، وسعى إلى الخير، وطبق دينه الذي في كل يوم يؤكد علم النفس أنه ذروة الانتفاع النفسي، فمن يحزن وهو يبر والديه أو يحسن لزوجته أو أبنائه؟ ومن يحزن وهو يبتسم لهذا ويساعد ذاك؟ فهل تريد أن تزعل الحزن نفسه؟