بشأن الجاذبيتين: الذاكرة والمخيلة (4-4)
كتاب فاضل عباس هادي (لمسات ورّاق فرنسي الهوى) ينطوي على كل علل استئصال الذاكرة والانقطاع إلى المخيلة. فأنت لا تقع، في كتابه الذي ينتمي إلى فن المذكرات الشخصية، على أثر من حياته كإنسان، ولا على أثر من موروثه الثقافي العربي، العنصر الثاني للذاكرة.بين حين وآخر يشير إلى أنه يعشق العربية عشقه للفرنسية، "شقيقتها بالرضاعة"، كما يحلو له أن يقول. لكن علاقته بالكتاب العربي القديم والحديث معدومة، إلا إذا كان مترجماً، ونثره تتزاحم فيه الأخطاء. والشواهد الشعرية التي ترد عرَضاً على لسانه ليست سليمة، (كأن يروي بيت الأصمعي: "يُداري هواه ثم يكتمُ ويخضع في كل الأمور ثم يخشعُ" ص89). (أو من أغنية لأم كلثوم: "وأسأله سرَّ ذلك الجوى/ فقالوا حنانك من شجوه/ ومن جدّك به أو لهوه.." ص187). (أو البحتري: "قل للقاعدين على هوانٍ إن ضاقت بكم أرضٌ فسيحوا" ص200). ولا تقع على استعادة لمدن الولادة والنشأة والشباب، ولا استعادة لصديق مقرَّب.
هؤلاء، عنصر الذاكرة الثالث، لا يشكلون لدى فاضل غير هواء في شبك. مرة واحدة ترد مفردة "ذاكرة"، ولكن بأي سياق؟: "تكلمي أيتها الذاكرة وهو يعود بها أو هي التي تقوده إلى ملاعب الصبا. مقهى في باريس تُطل على ساحة الباستيل. كان ذلك في أواسط السبعينيات. سارتر مازال حياً..." (ص34) ملاعب الصبا في باريس هنا وليدة مخيلة إيهامية، شأن كل سنوات المنفى المستعادة في ذهن المنفي، حين يستأصل ذاكرته لعلة من العلل. إن انصرافَه المطلق لثقافة الكتب الغربية أنهى لديه أيّ توازن. وشواهد الانفصام الذي ينتجه انعدام التوازن هذا تنتشر على صفحات الكتاب كالثقوب. فهو الذي قطع الوصل مع ذاكرته ينتسب بالمخيلة المجان لثقافة تملك ذاكرة بالغة العمق في الزمان والمكان. لذلك يبدو بالنسبة لها، هذا القادم بلا ذاكرة، كالهوام حول مصباح الليل. ولك أن تفهم علاقته الإيهامية بكتب تراثه الثقافي العربي من خلال كلامه التالي عنها: "تصفحت بعضها بيدين مرتعشتين من شدة الانفعال وبقلب خفاق، لعل أحداً ما يزكي وقته الهلامي بقراءتها والكتابة لي عنها"! (ص146) يهاجم من "يتنصل من عروبته ولغته العظيمة، ويعتقد أن الغرب هو الأفضل". (ص206) وهو في كتابه كله لا شأن له بهما! يعيش في إنكلترا، التي يحتقر، 35 سنة، وفرنسا التي يعشق على مبعدة ساعتين بالقطار! يعشق رامبو، لكنه يحتقر أوسكار وايلد، لأنه "مِثْلي"! يحتقر بذاءة الإنكليز، ولغته تتزاحم فيها البذاءة التي لا أجرؤ على إيراد شاهد منها... الخ. هذه الطبيعة الثقافية الانفصامية نشأت مع عدد من الجيل الستيني، ثم انفردت بعينات منهم متطرفة، عاشت في فرنسا، أو ألهمتها الفرنسية على مبعدة عبر الترجمة. وتحول لديها "الهوى الفرنسي" إلى عقيدة بلمسة قداسة، وخاصة أن الشاعر مالارميه ثبّت في أذهان عشاقه، ممن عززوا بعده ظاهرة "شعر اللغة"، "بأن الشعر حلّ محل الدين" ص233، والدين أو العقيدة تحتاج إلى تعصّب، وبالضرورة إلى أعداء. ولقد وجد فاضل عباس هادي العدوَّ جاهزاً في الإنكليزية والإنكليز، فتفرَّغ في ثلثي كتابه لمهاجمتهم؛ جنساً، لغة، أدباً، ثقافة، أرضاً، سماءً، تاريخاً بمفردات سوقية. وهو في الانتساب الفرنسي باقٍ داخل "البالون التهيامي الخيالي" ذاته الذي عادى فيه الإنكليز. إنه يُقبل على ثقافة فرنسية تملك ذاكرة بالغة العمق في الزمان والمكان. لذلك سيبدو لهم، هذا اللائذ بهم بلا ذاكرة، كالهوام حول مصباح الليل.إنه مشهد مُحزن للسوريالي العراقي الستيني الذي أوهم نفسه بانتساب لا حقيقة له حتى الانفصام. مُحزن لأنك تلمس تشبثه الدائب بأن يرى كلَّ ما يمتّ إلى "التوازن" بصلة مجرد عورة يجب أن تُهتك: فهو يحتقر العقل والفلسفة العقلانية (ص297). وينكر الدقة في الفكر والكتابة، كما ينكر البحث العلمي (ص246). ولا يجد ضرورة في مؤسسة الدولة (ص202). أما الموضوعية "فالكاتب الحقيقي هو الذي يتجاوز المفاضلة الموضوعية" (ص145). وهو "غير معني بالواجب الأخلاقي مهما فلسفوه" (ص94).