فجر يوم جديد : «رجل يغرق»!
كثيرة هي الأفلام التي تناولت قضية معاناة المغتربين العرب، في بلاد المهجر، والأهوال التي تواجههم، بعد رحلة شاقة يبذلون فيها النفس والنفيس، من أجل الظفر بحلم الجنسية الهجينة. لكن المخرج مهدي فليفل، الدنماركي من أصول فلسطينية، يطرق القضية من زاوية جديدة تماماً في فيلمه القصير «رجل يغرق» (15 دقيقة 2016)، الذي انفرد مهرجان دبي السينمائي بعرضه الأول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من خلال مسابقة «المهر القصير».يبدأ الفيلم بلقطات موحية لشاب يوشك على الغرق في مياه المتوسط، ونرى حقيبته وهي تطفو معه فوق صفحة الماء، متمسكاً بمتعلقاته الشخصية والأمل في الحياة، في إسقاط على هجرته غير الشرعية، وبعد مونتاج دقيق نراه وقد أفلت من الموت غرقاً في الماء، لكنه لم ينج من أمواج الحياة المتلاطمة في اليونان التي استقرت به الحال على أرضها!
«فاتح» (عاطف الشافعي) هو الشاب الغارق، الذي يمكنك أن تقول إنه فلسطيني، بالنظر إلى جنسية مخرج الفيلم، لكنه، في واقع الحال، مثل لكثير من الشباب العربي، الذي يضحي بروحه بغية الوصول إلى هدفه (الحلم المستحيل)، وعندما يظنّ أنه حقق مبتغاه، يُصدم بكم المشاكل والهموم التي تواجهه في حياته اليومية، حيث البطالة والفاقة والضغوطات المختلفة، فهو «رجل يغرق»، كما يقول عنوان الفيلم الذكي، نراه وهو يتسكع في شوارع العاصمة اليونانية أثينا، باحثاً عن لقمة عيش، بعد أن تدفعه الحاجة إلى تسول حفنة مال من «فتاح» (ربيع الصلوس) و«أبو الحب» (منير الخطيب) شريكيه في السكن، لكنهما لا يقلان عنه عوزاً وحاجة. وعندما تُغلق الأبواب في وجهه يضطر إلى مغادرة السكن ليتسول سيجارة وقطعة خبز تقيم أوده، لكنه يقابل بصدود ورفض، حتى يلتقي غريباً مثله يوافق على أن يقرضه مبلغاً قليلاً من المال نظير توريطه في جريمة سرقة يحتال خلالها على أحد متاجر بيع الأحذية، ويستولى على حذاء، ويفرّ هارباً ليمنحه للرجل الغريب، الذي يرفض تنفيذ الاتفاق، بحجة أن مقاس الحذاء كبير!فكرة بسيطة، ربما يراها البعض ساذجة، لكنها تعكس الحال المتردي الذي وصل إليه الشاب العربي، الذي يُدرك المصير البائس الذي انتهى إليه، ومن ثم يتورط أكثر بأن يلجأ إلى عرض الحذاء المسروق على المارة، ويبدأ في تقديم التنازل تلو الآخر، حتى يصل إلى الدرك الأسفل، متمثلاً في بيع نفسه لمواطن يوناني (ثيميوس كوكيوس) يعرف حقيقة ما وصل إليه من بطالة وشظف العيش، منذ أن وطأت قدماه أرض اليونان، منذ ثمانية أشهر، ويتظاهر بالموافقة على شراء الحذاء لكنه يطالبه بأن يرافقه إلى منزله ليدبر مبلغ الخمسة يورو المحدد لاتمام الصفقة، وهناك نفهم أنه يقايضه على رجولته، ويقيم معه علاقة مثلية، تنتهي بخداعه، وتهديده بالكلب الشرس الذي يملكه، ويغادر الشاب الفلسطيني المنزل مطروداً ومذعوراً!«يغرق»، وتهرب منه أحلامه، وحياته، بعدما قتلته الوحدة، والوحشة، واليأس، وبعدما ظنّ أنه طفا على سطح الماء، ووصل إلى الضفة الأخرى، ولمس الواقع الجديد، الذي لم يظنه قاسياً إلى هذه الدرجة، واستيقظ على «كابوس» لم يخطر له على بال، من ثم راح يهيم على وجهه باحثاً عن وسيلة للنجاة، من الجوع الذي يكاد يقتله، والليل الموحش الذي يسكنه، وصار على قناعة بأن البحر الذي كاد يلتهمه أكثر رحمة من واقعه الكارثي.فيلم صادم يحمل في طياته كثيراً من الدلالات الرمزية، التي يمكن قراءتها، واستنتاجها، من «الفلسطيني» الهائم على وجهه كي يتسوّل لقمة عيشه، ومعها هويته وكرامته، وهو ما لا يمكن أن نرى فيه إساءة من أي نوع، بل محاولة جادة لإقرار الحقيقة المؤلمة كما رآها مخرج فلسطيني الأصل قدّم فيلماً مؤلماً يجري فيه الحوار بـالعربية واليونانية، وتصدّى لإنتاجه مع باتريك كامبل وسيجني بيرج سورنسن، وحاز من خلاله جائزة «الدب الفضي» في «مهرجان برلين السينمائي الدولي»، وهو الذي عُرض له من قبل «عالم ليس لنا» (2012)، الذي فاز بـ«جائزة السلام» في مهرجان برلين السينمائي، و«عرفات وأنا» (2008)، ومن ثم فإنه صاحب خصوصية، وأسلوب متفرد في أفلامه، التي تحمل هماً، وتطرح وجعاً، وكيف لا وهو الذي نشأ مع عائلته في مخيم عين الحلوة بلبنان، قبل أن يهاجر إلى أوروبا ليواصل من هناك تبنيه قضايا وطنه الضائع؟