فجّر إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل موجة جديدة من المقاومة الشعبية في فلسطين لامست حدود الانتفاضة الشعبية، وواقع الحال أن نمطا جديدا من الانتفاضة الفلسطينية قد بدأ يتكون منذ عام 2015، انتفاضة مقاومة شعبية تجري على شكل موجات، تتناوب وتتكرر، وما بدأ في عام 2015 وصل إلى ذروة مذهلة في يوليو من عام 2017 عندما قدمت المقاومة الشعبية واحدا من أفضل نماذجها في القدس، وأجبرت نتنياهو على التراجع عن إجراءته التي حاول فرضها في المسجد الأقصى، وقد عمّق ذلك النجاح الفلسطيني الإيمان بقوة المقاومة الشعبية، وقدرتها عندما تستخدم بشكل منظم وعندما تحقق زخما شعبيا مؤثرا. وإذ تنوعت أشكال هذه المقاومة على مدار الخمسة عشر عاما الأخيرة، من المظاهرات ضد جدار الفصل العنصري، إلى سفن كسر الحصار على قطاع غزة، إلى بناء قرى المقاومة، إلى حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية، إلى الصلاة في المسجد الأقصى رغم أنف المحتلين، والمسيرات الشعبية في عيد الفصح التي تنتهي دوما بالصدام مع المحتلين، فإن المقاومة الأوسع والأكثر انتشارا كانت إصرار الفلسطينيين على البقاء في وطنهم فلسطين، رغم التهجير القسري والاحتلال البغيض ومنظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري.
لقد أدرك الفلسطينيون أن المشروع الصهيوني يرتكز على ركنين: الاستيلاء على أرض الفلسطينيين أولاً وتهجيرهم منها ثانيا، ولذلك صار التمسك بفلسطين والبقاء فيها أروع أشكال المقاومة الفلسطينية لأنه المسبب الأول والأكبر لأزمة الحركة الصهيونية العاجزة عن استكمال أهدافها. ولأن التطهير العرقي للفلسطينيين هو جوهر المشروع الاستعماري الصهيوني فإن كل جانب من جوانب حياة الفلسطيني صار نوعا من المقاومة، فالبقاء في فلسطين مقاومة، وإصرار الشباب الفلسطينيين على رفض إغراءات الهجرة مقاومة، وتلقي التعليم صار مقاومة وتقديم العلاج للمرضى والعناية بصحة الناس خصوصا في المناطق المهددة غدا واحدا من أسمى أشكال المقاومة، ومثلما صارت التظاهرات الشعبية مقاومة، فإن بناء المدارس والعيادات الصحية والمساجد والكنائس وأداء الصلاة غدت من أشكال المقاومة، ومن ناحية أخرى تتقدم مقاطعة بضائع الاحتلال ورفض التعامل مع مؤسساته كأحد أهم أشكال المقاومة المؤثرة والفعالة. وهكذا ومع مرور سبعين عاما على نكبة الشعب الفلسطيني، تحولت المقاومة في فلسطين الى نمط حياة، وعندما يسألني الباحثون عن أهم ما يميز الشعب الفلسطيني، فإنني أجيبهم بكلمتين "الصمود المقاوم"، ذلك "الصمود" هو الذي جعل عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية اليوم أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين رغم تهجير 70% من الشعب الفلسطيني بالقوة عام 1948.وذلك الصمود المقاوم هو الذي جعل أهل العراقيب في النقب يعيدون بناء قريتهم 123 مرة بعد هدمها، وهو الذي جعل قرية "جب الذيب" في منطقة بيت لحم تصمد لإجراءات الاحتلال وتعيد بناء مدرستها بعد أن هدمها الاحتلال، وهو الذي مكن أهالي "سوسيا" و"جبل البابا" وعشرات القرى الصغيرة الأخرى من البقاء في وجه الاحتلال والاستيطان، وهو الذي جعل قطاع غزة يصمد لحصار خانق مستمر منذ أحد عشر عاما ولثلاث حروب عاتية لم تكن دول لتصمد أمامها. وذلك الصمود المقاوم هو الذي مكّن فلسطين من إلحاق الهزيمة بترامب ونتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فالفلسطينيون يدركون أن طريق نضالهم طويل وصعب، ومحفوف بالآلام والمخاطر، ولكنهم يدركون أيضا أن نهايته لن تكون إلا النصر والحرية. وضوء الحرية في نهاية الطريق هو الذي يمنحهم الأمل في محيط ظلمته حالكة، وهم يخوضون نضالهم أمام خصم عنصري شرس، وضوء الحرية في نهاية الطريق هو الذي منح ويمنح الفلسطينيين جيلا وراء جيل تلك القدرة الخارقة على جعل المقاومة نمطا لحياتهم. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
مقالات
في فلسطين... المقاومة نمط حياة
31-12-2017