عندما تخرب دولة الرفاهية حياة البشر
مع اقتراب أعياد الميلاد، كانت المملكة المتحدة حريصة على التعجيل بإطلاق برنامج للضمان الاجتماعي لا يمكن أن يحبه أحد سوى إنسان بالغ القسوة «كشخصية إبنيزر سكروغ في رواية تشارلز ديكنز «ترنيمة عيد الميلاد». يحل برنامج «الائتمان الشامل» محل ست من فوائد الرعاية الاجتماعية المختلفة، مثل الخصم الضريبي للطفل واستحقاق السكن. ويتلخص الهدف في تحفيز تشغيل العمالة، وخلق نظام متصل وأسهل استخداما.هذه هي الفكرة على أي حال، ولكن من المؤسف أن إطلاق النظام الجديد كان متعسرا، فانتظار الدفعة الأولى لمدة 42 يوما كحد أدنى كان يعني أن بعض الأسر أصبحت مفلسة لمدة قد تصل إلى ستة أسابيع، وعندما وصل المال وجد العديد من المتلقين أن استحقاقاتهم قد تقلصت، وفي المناطق التي جرى تنفيذ الائتمان الشامل على نطاق واسع فيها، تزداد الإحالات إلى بنوك الطعام، كما تزداد حالات الطرد من السكن.ولكن على الرغم من كل العناوين الرئيسة المثيرة، هناك مشكلة أكثر عمقا وغير مذكورة تعيب إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية في المملكة المتحدة: فهو بدلا من الحد من الفقر، ربما يؤدي إلى تفاقمه في واقع الأمر.
في الكتاب الرائد المنشور في عام 2013 بعنوان «الندرة: لماذا يعني الحصول على أقل مما ينبغي الانزلاق إلى عواقب جسيمة»، من تأليف سيندهيل موليناثان وإلدار شافير من جامعة برينستون، يستقصي الباحثان الظروف التي تدفع الناس إلى اتخاذ قرارات بشأن الكيفية التي يديرون بها وظائفهم، وأسرهم، وحياتهم، وينطوي بحثهما على درسين ينبغي وضعهما في الاعتبار عند تقييم آخر إصلاح لنظام الرعاية الاجتماعية في المملكة المتحدة.الدرس الأول هو أن الناس- الأغنياء والفقراء- يتجهون غالبا إلى اختيارات رديئة عندما يفتقرون إلى مورد أساسي، مثل المال أو الوقت. على سبيل المثال قد تكون «قروض يوم دفع الراتب» الباهظة التكلفة جذابة في نظر مقترضين يعانون ضائقة مالية، حتى إن كانت شروط هذه القروض تميل إلى دفع الناس إلى تحمل المزيد من الديون.وليس هذا لأن الناس يفتقرون إلى التعليم، ففي دراسات منضبطة طلب موليناثان وشافير من طلبة جامعة برينستون أن يمارسوا لعبة موقوتة على الكمبيوتر أتيحت لهم فيها الفرصة لاقتراض ثوان إضافية، حتى إن كان ذلك يعني التخلي عن ضعف عدد الثواني من إجمالي الوقت المتاح لهم، واغتنم العديد منهم الفرصة، الأمر الذي دفع الباحثان إلى استنتاج مفاده أن القرارات السيئة من الممكن أن تنتج عن ظروف الندرة والإجهاد.ومن الواضح أن أحدث إصلاحات الرعاية الاجتماعية في بريطانيا من شأنها أن تدفع العديد من المتلقين إلى حسابات مماثلة، لأن العديد من الفقراء انخفض ما يحصلون عليه من دعم، ولم يكن هذا هو الهدف الأصلي لنظام «الائتمان الشامل»، ولكن الحكومة التي تسعى إلى خفض الإنفاق وجدت في خفض الرعاية الاجتماعية إغراءً لا يقاوم، والنتيجة نظام أقل سخاءً بنحو 3 مليارات جنيه إسترليني (4 مليارات دولار أميركي) من النظام الذي حل محله. وتشير بعض التقديرات إلى أن نحو 1.1 مليون أسرة تتألف من والدين ستفقد نحو 2770 جنيها إسترلينيا في المتوسط سنويا، في حين تخسر الأسر ذات العائل الوحيد 1350 جنيها إسترلينيا في المتوسط سنويا، ومن المرجح أن تعمل هذه التخفيضات في الاستحقاقات على إدامة حلقة من التخطيط الرديء والقرارات السيئة. وهي حلقة مفرغة؛ فكلما حُرِم الفقراء من الموارد أصبحت قراراتهم أشد ضررا.الدرس الثاني المستخلص من دراسة شافير وموليناثان ينطبق على حدود «النطاق العريض» البشري، فنحن نعلم جميعا أن السائقين الذين يستخدمون الهواتف المحمولة أثناء القيادة أكثر عُرضة للحوادث، أو أن الطلاب الذين يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة أثناء المحاضرات يقل تحصيلهم التعليمي، فإذا تشتت تفكير الناس بفعل شاغل ملح، يُصبِح أداؤهم أسوأ في المواقف التي تتطلب حل المشكلات.ويعمل نظام الاستحقاقات الاجتماعية في بريطانيا بطريقة مماثلة؛ فهو مستهلك شره لانتباه الناس. على سبيل المثال أنشأ سلف نظام الائتمان الشامل (قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية لعام 2012) أسقفا لبدلات السكن المحلية ومجموع الاستحقاقات، وعقوبات الإشغال المنقوص، كما تغيرت استحقاقات العجز واختبارات الأهلية بشكل كبير، وكل هذه «التحسينات» جاءت تالية للعشرات من التغييرات الأخرى، مما خلق دوامة من البيروقراطية التي أجهدت القدرة على التفكير السليم واختبرت العزيمة.والآن تأتي التغييرات الجديدة، التي تعمل فعليا على خلق ارتباكات مؤلمة للمستفيدين، وإرغام الفقراء على إنفاق المزيد من الطاقة العقلية للإبحار عبر أمواج نظام جديد آخر، وقواعد وإجراءات جديدة، وهذا أشبه بإجبار الناس على استخدام الهاتف المحمول كلما قادوا سياراتهم، ومن غير الواضح كيف يفترض أن يتمكن الآباء والعمال الذين يتعاملون مع نظام كان المقصود منه أن «يجعل العمل مجزيا» من أداء أي من الدورين على نحو جيد.لقد جرى الترويج للبرنامج الجديد بوصفه وسيلة لخفض التكاليف وتحفيز قرارات أفضل، وبالتالي نقل المزيد من الناس إلى قوة العمل والحد من مطالبات الاستحقاقات، ولكن حتى الآن لا يوجد دليل يُذكَر يدعم هذا السيناريو الوردي. بخفض استحقاقات الفقراء تضمن الحكومة تفاقم الندرة وتكاثر القرارات الرديئة، وبتغيير النظام بشكل متكرر وجعله أكثر تعقيدا يُجبِر قادة بريطانيا الفقراء أيضا على استهلاك قدر أكبر من نطاقهم الذهني، وفي المجمل تساهم هذه العوامل في جعل متلقي الرعاية الاجتماعية في حال أسوأ.ينبغي لصناع السياسات أن يحرصوا على قراءة دراسة موليناثان وشافير، والنظر في كيفية تطبيق بحثهم على إصلاحات الرعاية الاجتماعية في المستقبل، ويجب أن يكون الهدف تقديم استحقاقات سخية ومستقرة بالقدر الكافي للسماح للناس بالتركيز على البحث عن عمل، في حين يساعدون أطفالهم أيضا في أداء فروضهم المنزلية ورعاية صحتهم الشخصية. والواقع أن إنشاء هذا النمط من النظام أمر ممكن، والبديل هو نظام يفرض أعباء إضافية على أولئك الأقل قدرة على تحمل الأعباء.* العميدة المؤسسة لكلية بلافاتنيك للإدارة الحكومية في جامعة أكسفورد.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»