الفلسطينية حزامة حبايب: «مخمل» رواية النساء العاشقات
• بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ
استطاعت حزامة حبايب، بجرأة كبيرة أن تنقل القضية الفلسطينية إلى منعطف جديد بروايتها الأخيرة «مخمل»، وذلك حسب نقاد كثر عقب فوزها بجائزة نجيب محفوظ أخيراً. كذلك رأوا أنها تحدّت بقوة تقاليد فرضها المجتمع العربي، باقتحامها أسوارها، ومحاولة تفكيكها.
تنوّعت أعمال حزامة، بين الشعر والقصص والرواية والترجمة، لتحصد بذلك عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية، آخرها جائزة محفوظ للأدب، التي حصلت عليها باحتفالية كبرى بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
«الجريدة» التقت حزامة وكان هذا الحوار.
تنوّعت أعمال حزامة، بين الشعر والقصص والرواية والترجمة، لتحصد بذلك عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية، آخرها جائزة محفوظ للأدب، التي حصلت عليها باحتفالية كبرى بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
«الجريدة» التقت حزامة وكان هذا الحوار.
ما السبب وراء بكائك خلال إعلان جائزة نجيب محفوظ؟كانت اللحظة كلها مشحونة عاطفياً بالنسبة إلي، والشهادة التي قدمتها في الاحتفالية حول تجربتي السردية عموماً وتجربة رواية «مخمل» هي أقرب ما تكون إلى «سيرة الفقد». ثمة مفاصل عدة في الشهادة تنبش آلاماً كثيرة من مخزون خساراتي الكثيرة. أعتقد أن الغصة بدأت تقبض على قلبي في الجزئية الخاصة بحقيقة أنني «امرأة بلا وطن»، واستدعاء مفهوم البيت أو بالأحرى ضياع البيت بالتفاصيل التي تجعله مكاناً لمراكمة العيش والذاكرة، وحين وصلت إلى الجزئية التي تقول: «أنا حزامة حبايب، ابنة اللاجئ الفلسطيني حامد محمد حبايب، الذي غادر قريته الفلسطينية طفلاً في السابعة، ممسكاً يدَ أمه، لاهياً عن مآلِ البلاد وناسِ البلاد، غير واعٍ أنه استحال رمزاً لأكبر نكبات العصر».لم أستطع أن أتمالك نفسي، خصوصاً حين ذكرت اسم والدي المُتوفي، في تلك اللحظة شاهدت أبي أمامي، ليس الرجل الذي عرفته أباً، وإنما الطفل الصغير ابن السابعة الذي كان يمسك يد أمه، شاهدت عينيه الزائغتين، غير مدرك لما يجري حوله. والحق أننا لا نملك أية صورة لأبي وهو طفل، ولا أذكر مرة أني تخيلت شكله صغيراً، كأنه لم يكن طفلاً يوماً. لكن في تلك اللحظة، وجه الطفل، الذي هو أبي، ظهر أمامي، فبكيت غصباً عني.
الحب الأول والكتابة الأولى
الميلاد والدراسة في الكويت ومنها إلى الأردن والإمارات، والأصل فلسطيني، أي تلك البلاد أثّر في تكوينك، من ثم كتاباتك؟قطعاً، لكل بلد أقمتُ فيه، ولكل مدينة عشتُ فيها حضور في كتاباتي، وإن كان بدرجات مختلفة من «طغيان» الحضور، كما بدرجات مختلفة من اللون والمذاق والتفاعل الحسي والنفسي مع البشر والأماكن.وُلدت في الكويت، وعشت طفولتي وأول شبابي فيها، وهي «نشأة» غنية من النواحي كافة. أول حب كان في الكويت، وأول الفقد الجسيم كان هناك، وأول بيت، صغناه على نحو شديد الشبه ببيت عائلة يتسع لحياة ممتدة، بكراكيب لا تعد ولا تحصى، وبالطبع، فإن الكتابة الأولى كانت في الكويت. وفعلياً، مجموعتي القصصية الأولى التي تحمل عنوان «الرجل الذي يتكرر» كُتبت في هذا البلد، وبعض قصص المجموعة «يا لسخرية القدر» كتبته على مكتبي الخشبي الذي تحول لاحقاً إلى حطب ألقمه والدي في النار وقوداً لمدفأة بدائية. أما الأردن التي عشت فيها سبع سنوات، فشكلت امتداداً طبيعياً للحضور الفلسطيني الملازم، من خلال تدفق هائل في البشر والمشاعر والتجارب، التي ترسبت كمخزون عاطفي ما زلت أنهل منه. ثم جاءت الإمارات، بداية في أبو ظبي قبل أن انتقل إلى دبي، هنا وجدت العزلة الإيجابية، التي تعد شرطاً حيوياً للكتابة. أعمالي الروائية كافة كتبتها في الإمارات، وثمة أمر ربما يبدو غريباً أو غير مفهوم تماماً لي، وهو أن البلد الأكثر حضوراً في كتاباتي هي تلك التي لم أعش فيها، ولم أعرفها «مادياً». أتحدث هنا عن وطني فلسطين. أعتقد أن كل المدن والدول التي عشتُ فيها كانت جسراً أو ربما شاشة إنسانية وعاطفية كي أكتشف فيها ومن خلالها فلسطين أكثر، كأن الأماكن كلها قادتني في النهاية إلى فلسطين.بمن تأثرت من الأدباء الفلسطينيين أكثر من غيرهم؟شخصياً، ثمة تجربتان أدبيتان كان لهما أكبر الأثر في مسيرتي، خصوصاً في البدايات: تجربة رائدة القصة الفلسطينية سميرة عزام، والقاص والروائي غسان كنفاني، وهما يشكلان علامة فارقة في الأدب الفلسطيني الحديث. كتاباتهما التي اطلعت عليها مبكراً شكلت كشفاً لي ومنطلقاً كي أخوض غمار السرد من منظور عرفت أنه سيكون مغايراً وفي الوقت نفسه يضيف إلى المنجز الفلسطيني ويكون باختلافه امتداداً له. مع قصص سميرة عزام اكتشفت جماليات «أنسنة» الفلسطيني، ومع كتابات كنفاني اكتشفت ظلال الهوية الفلسطينية. كنت طالبة في الجامعة حين قرأت روايته «رجال في الشمس»، وأذكر يومها أني بكيت. كانت تلك أول مرة أكتشف فيها دلالات الهوية الفلسطينية واستحقاقاتها، وكيف أنها ربما تتحول إلى عبء لدى البعض أو مدعاة للخوف أو الخجل أو التواري أو التعبير المبطن أو التعبير السافر، وغيرها، ووجدتني أكثر من مرة أعيش هذا الاستحقاق، فجاءت الكتابة في أحد جوانبها كوسيلة للتعبير عن هذه الدلالات وهذه الاستحقاقات.«حوا» العاشقة
حدثينا عن روايتك «مخمل». لماذا اخترت «حوا» المرأة الفلسطينية العاشقة، لتكون البطلة؟ وهل اختيار مخيم «البقعة» يرجع إلى رغبة لديك في العودة إلى أصل المأساة الفلسطينية؟«مخمل» رواية الحب الذي يبلغ غايته، بمعنى التحقق والامتلاء العاطفي والحسي المتوق أو المتخيل. هي رواية النساء العاشقات، مثل «حوا» و«قمر» و«درة العين»، واختيار المخيم الفلسطيني كفضاء للسرد، لأن المخيم بطبيعته الخشنة والقاسية، يشكل بيئة لأشكال الحرمان، ذلك المخيم الفلسطيني كبيئة مشوهة يفترض أنها مؤقتة تحول مع سنوات النكبة والنزوح، إلى بيئة دائمة، ما رفع من مستوى التشوه ليغدو أكثر تجذراً واستشراءً. عليه، فإن الحياة في المخيم تشكل أكبر اختبار للإنسان الفلسطيني، ضمن منظومة اجتماعية ونفسية ومادية تطحنه يومياً.كروائية، لست معنية في «مخمل» بتقديم طرح سياسي أو استدعاء أدبيات الثورة، أو المناداة بالصمود أو إطلاق مقولات فارهة من نوع «المخيم مصنع الرجال»! ما يعنيني الالتفات إلى الإنسان الفلسطيني، القضية الأساسية والكبرى فعلياً، والإنصات إلى همومه، ونبش عواطفه ومخاوفه ورغباته المتوارية خلف الشعارات الكبرى. هذه هي قضيتي في الكتابة.أثارت روايتك «أصل الهوى» عاصفة من الجَدَل بسبب المحتوى الجريء، فهل يخيفك النقد؟ أو يجعلك تفكرين بتغيير مقاربتك السردية؟لا أسمح للنقد السلبي بأن يخيفني، كما لا آخذ بالنقد الإيجابي، كي لا يقيدني الأول ولا يفتنني الثاني بنفسي! في جميع الأحوال، أحترم القراءات النقدية الجادة لأعمالي وأتوقف عند إضاءات عدة، وأفاجأ بمقاربات تسلط الضوء على جوانب لم أنتبه لها، ذلك أن أية قراءة للعمل الإبداعي تتناول مستويات عدة في التجربة، لا يكون الكاتب واعياً لها أو مدركاً أبعادها دائماً، وهذه مسألة طبيعية بالنظر إلى الطبيعة المعقدة للكتابة، وتداخل عوامل عدة فيها.شكّلت رواية «أصل الهوى» انعطافة رئيسة في مسيرتي السردية، فهي أول عمل روائي لي بعد أربع مجموعات قصصية كرستني كصوت «مسموع» في القصة القصيرة عربياً، وتم استقبال «أصل الهوى» بضجيج كبير، لجرأة الطرح، فكان الثناء النقدي واسعاً، كذلك الهجاء (معظمه ليس في إطار نقدي). ومع الوقت خف الضجيج وبقي العمل، لأفاجأ بعد سنوات من صدور الرواية بتراجع النفس الهجائي لصالح الإقرار بأني كروائية خضتُ درباً جديداً في «أصل الهوى»، وهو شائك يُحسب لي أني طرقته بشجاعة، غير هيّابة.«قبل أن تنام الملكة»
حول روايتها الثانية «قبل أن تنام الملكة» التي حظيت بإشادة نقدية واسعة، واختيرت ضمن استفتاء أجرته صحيفة «الغارديان» في 2012 ضمن أفضل قراءات العام، تقول حزامة حبايب: «الشجاعة موجودة في روايتي هذه أيضاً، وهي تلازمني كوسمة روائية. في «قبل أن تنام الملكة»، سلطت الضوء على المجتمع الفلسطيني في الكويت، في مقاربة سردية ربما تكون الأولى من نوعها في الرواية الفلسطينية، والعربية عموماً. ومرة أخرى، من دون أي حضور جلي للسياسة أو للمفاهيم والنظريات الكبرى. ومرة أخرى، فلسطين حاضرة بقوة رغم غياب المكان/ الوطن، بل إن حضورها يتعاظم أكثر من خلال هذا الغياب القسري. ومرة أخرى أيضاً، تعانق شخصياتي الحياة طولاً وعرضاً».تتابع: «وإذا كانت «حوا» في «مخمل» عاشقة تصمد في وجه محاولات تحطيم روحها، فإن شخصية «جهاد» المركزية في «قبل أن تنام الملكة» نموذج البنت الفلسطينية التي تمشي على الأرض بثبات، فتقطع الصحراء من الكويت عبر العراق إلى الأردن (في رحلة عكسية لرحلة رجال غسان كنفاني في «رجال في الشمس» الذين يقطعون الصحراء من العراق إلى الكويت داخل خزان مائي)، هدفها أن تصل بابنتها، رمز الأمل الفلسطيني، بسلام وفي النهاية، تصل إلى غايتها، وتظل روحها صلبة عصية على الانكسار».
الكويت شهدت حبي الأول وبداية مجموعاتي القصصية