في المدينة
العاصمة هي الوجه الحضاري للدولة، وهي مؤشر دقيق لأحوالها وانعكاس صادق لكيفية سير مختلف الأنظمة فيها، لذلك تحرص دول العالم المتقدم أن تظهر عواصمها ومدنها الكبرى في أبهى حلة، فتكون مصممة خصوصاً لراحة وسعادة سكانها الذين يقدمون أفضل خدماتهم لبلدانهم كرد فعل طبيعي بالمقابل، فكيف حال مدينتنا؟شحيحٌ هو الجمال من حولنا في هذه المدينة، نلتقط منه القليل المبعثر هنا وهناك وسط صناديق الإسمنت الخانقة ونحتفظ به ما استطعنا، فلا نعلم متى يأتينا غيثه مجدداً. ناطحات سحاب كثيفة بُنِيت دون حسبان... تنخر الأرض بجذورها الحديدية، ألسنة إسفلتية على مد النظر، يعلوها سيل من جيوش مملكة السيارات المعدنية، حيث لا توجد أنظمة نقل عام حقيقية ذات مستوى مقبول. لا مكان للإنسان هنا، فإن تهورت وقررت أن "تتمشى" في المدينة فلن تجد أدنى اعتبار للمشاة، وستجد البلاط الصخري المقيت يقمع الأزهار والشجيرات التي تحاول جاهدة أن تجد لها منفذاً كي تشق طريقها نحو النور.في رحلتك هذه سواء أكانت في سيارتك أم سيراً على الأقدام، ستصفعك رائحة البيض الفاسد التي تنبئ بحالة البنية التحتية المزرية، وستجد سلسلة من المطاعم العشوائية هنا وهناك مخترقة النسيج المعماري، تحث على المزيد من الاستهلاك والجشع التجاري دون وضع أي اعتبار لسياق المنطقة المحيطة بها وقيمتها التاريخية، ودون التفكير حتى في البدهيات كوجود مواقف للسيارات وتأثير وجودها على سكان ورواد المنطقة الأصليين... مشاهد سيريالية يكاد المرء ألا يصدق عينيه لرؤيتها في بلد يتمتع بالرخاء المادي والانفتاح الثقافي نسبياً.
قسوة هذا النسيج المعماري العشوائي انعكست على سكانه، وغياب التخضير أعمى البصائر، فأصبح الشعور بالجمال والطبيعة متبلداً، وأمسى الوجدان مبتوراً عندما عزل الإنسان نفسه عن نفسه بالبروج العاجية المشيدة، وانغمس في الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية، فأصبح الجمال في أعيننا سيارة بالغة الفخامة ووجها بلاستيكيا محشوا بالسيليكون، وصار الكثير منا يرى أوراق الأشجار وصغار القطط على أنها أوساخ وآفات، فعجبي كيف استحال القبح جمالاً والجمال قبحاً!قد يرى البعض أن جمال البيئة المحيطة أمر ثانوي غير مهم، لكنني أعتقد أن جمال المدينة وبهاءها دليل صحتها من ناحية التصميم وعمل البنية التحتية بشكل سليم، فالعيش في مدينة جميلة ومنظمة يرتقي بالنفس ويهذبها نحو التمدن والإبداع، في حين رؤية الفوضى والأوساخ والتلوث البصري بشكل مستمر تنخر النفوس وتحدث الضرر فيها، فيترسخ الشعور باللامبالاة وعدم المسؤولية... فلنرتقِ معاً بمدينتنا.* "المدينة العظمى هي التي يسير فيها الذئب والحمل والنمر والجدي معا". (ميخائيل نعيمة).