إعلام فلسطين لا يخدم قضيتها
الإعلام الفلسطيني يعاني أنماط أداء تستهدف الوحدة الوطنية منذ مشهد الانقسام، ويشهد تركيزا على القضايا الحزبية غير الجوهرية على حساب القضايا الأساسية للجمهور، في ظل عدم ربط المادة الإعلامية في وسائل الإعلام الحزبي بالواقع الفلسطيني، ونقص كفاءتها كمصدر للمعلومات عن القضايا الأساسية.
لا يوجد نظام إعلامي عربي رشيد بما يكفي لكي نقدمه إلى العالم والمنطقة كأنموذج لما يجب أن يكون الإعلام عليه، لكن مع ذلك، فإن الإعلام الفلسطيني بالذات يجب أن يتخلص من الكثير من الممارسات الخاطئة، التي تعوقه، وتحرف أداءه، وتصعب مهمة الشعب الفلسطيني في نيل استقلاله وخدمة قضيته.لا تعطي التطورات السياسية المتلاحقة، وآخرها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والذي صدر خلال شهر ديسمبر 2017، الفرصة المناسبة لدراسة مشكلات الإعلام الفلسطيني، واتخاذ خطوات جادة نحو تطويره ليكون قادراً على الوفاء بدوره في تقديم محتوى يتحلى بقدر مناسب من المهنية لجمهور متعطش.يعكس الإعلام الفلسطيني الحالة السياسية التي يهيمن عليها الصراع في الأراضي الفلسطينية بوضوح؛ وهو صراع متعدد المستويات ومتباين الوتيرة، لكنه نجح في تقويض احتمالات النمو والتقدم في قطاع الإعلام، وأبقاه رهينة لتجاذبات السياسة ومعاركها.
يتنوع المشهد الإعلامي الفلسطيني، ويحظى بدرجة ملحوظة من التعدد، في ظل عدم وجود سلطة مركزية متسلطة كتلك التي تحكم في بعض دول المنطقة، ومع ذلك فإن هذا التنوع لا يخدم حالة الحوار الوطني المرغوبة.فمنذ اتفاقيات أوسلو، أنشئت صحف جديدة، كما أُطلقت محطات إذاعية وتلفزيونية رسمية ومستقلة فلسطينية، لكن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي أثر بشدة في البيئة الإعلامية الفلسطينية؛ حيث عمل الإعلاميون الفلسطينيون في ظل ظروف صعبة للغاية، وسجلت بعض المنظمات الدولية شكاوى عديدة من انتهاكات بحقهم.وفي عام 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية، وما تبعها من تأثير على قطاع الإعلام، الذي مُني بمشكلات مالية في العديد من المؤسسات، وحتي منتصف عام 2017 استمر الصراع السياسي الداخلي بين الفصائل الفلسطينية، وخصوصا الصراع الدائر بين حركتي "فتح" و"حماس"، مما انعكس على الأداء الإعلامي الفلسطيني، وأدى إلى المزيد من التدهور في بيئة العمل الإعلامي.في ظل انطلاق جولة جديدة من جولات "المصالحة الوطنية" بين "فتح" و"حماس"، في خريف عام 2017، برعاية مصرية، تنتعش الأماني في أن تنعكس تداعيات تلك المصالحة إيجاباً على الحالة الإعلامية في حال نجاحها.بالنظر إلى النظام الإعلامي في فلسطين، نجد أن الأحزاب تهيمن على نسبة معتبرة من ملكية وسائل الإعلام، حيث إن معظم وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة والإلكترونية تملكها أحزاب وفصائل، أو تمولها وتدافع عنها.وتبرز "الحزبية" كأحد أهم المعوقات التي تواجه الإعلام الفلسطيني، كما تٌشكل جزءاً مهماً من الانقسام الحاصل منذ عام 2007، بالإضافة إلى الصراع مع إسرائيل. لقد اهتم هذا الإعلام الحزبي بالصراعات الحزبية والمشاكل الداخلية أكثر من غيرها، وتعامل مع القضية الفلسطينية بشكل سطحي، ليتحول الإعلام الفلسطيني باختلاف أنواعه إلى آلة صراع في النزاع الداخلي بين حركتي "فتح" و"حماس". كما عمل الصحافيون المنتمون إلى كلا الفريقين على تشجيع ممارسات طرفي الصراع وتبرير أفعالهما، بعيداً عن الالتزام بقيم الموضوعية والحياد، في ظل الالتزام بالسياسات التحريرية للمؤسسات الإعلامية التابعين لها أو المقربين منها. تدعم السلطة الفلسطينية وسائل الإعلام في الضفة الغربية، أما في قطاع غزة، فتتبع معظم وسائل الإعلام الفصائل الفلسطينية، وبعضها يؤيد "حماس". ومع غياب الإعلام "العمومي" بشكل كبير، لا يمكن الإشارة إلى وجود إعلام مستقل في غزة، فيما يمكن الإشارة إلى ذلك في الضفة الغربية، ولكن مع "رقابة ذاتية" تضمن إرضاء السلطة وتجنب المواجهة معها.اسـتمرت الحـرب الإعلامية بـين الطـرفين ولـم تتوقـف، حتـى خـلال محـاولات رأب الصـدع بـينهما، والمبـادرات التـي سعت إليها أطراف محلية وعربية، ولم يراع أي منهما في إعلامه حدوداً فــي كيــل الاتهامــات للطــرف الآخــر والتحــريض عليــه، وتوصــيفه بأوصــاف تحــض علــى الكراهية، في مخالفة واضحة للقوانين المحلية، والمعايير الدولية.لقد أدى تطور حالة الانقسام الداخلي، منذ عشرة أعوام تقريبا، إلى التأثير سلباً في حرية الرأي والتعبير، وهو أمر له تداعيات خطيرة على النظام الإعلامي الفلسطيني، لأنه يفرز مؤسسات إعلامية متحيزة وبخاصة الرسمية منها، التي تعمل على تقييد الحريات للطرف المعارض لها.ويمكن القول، إن الإعلام الفلسطيني يعاني أنماط أداء تستهدف الوحدة الوطنية منذ مشهد الانقسام، ويشهد تركيزا على القضايا الحزبية غير الجوهرية على حساب القضايا الأساسية للجمهور، في ظل عدم ربط المادة الإعلامية في وسائل الإعلام الحزبي بالواقع الفلسطيني، ونقص كفاءتها كمصدر للمعلومات عن القضايا الأساسية.وبهذا أضـحى الخطـاب الإعلامـي الحزبـي فـي فلسـطين يعتمد علــى قاعــدتين أساســيتين: تتمثــل الأولــى بتضــخيم الأنــا وتلميعهــا، وتقــوم الثانيــة علــى تقــزيم الآخــر وتشويهه، والتقليل من قدره، دون الاعتماد على أي دليل، وهو أمر ينال في النهاية من صورة القضية الوطنية الفلسطينية.يعد الانقسام السياسي والتنظيمي والإعلامي بين الفصائل الفلسطينية من أبرز ملامح المرحلة الراهنة، مع بروز خطاب إعلامي تحريضي، يصل لمرحلة التخوين، وربما التكفير أحياناً. وفيما يخص الجانب الإعلامي، كُشف الغطاء عن عجز الإدارة الاعلامية الفلسطينية عن إدارة حوار وطني، ونبذ أجواء الفرقة والتعصب. ولم تتوافر لدى حركتي "فتح" و"حماس" إرادة سياسية حقيقية، طوال عشر سنوات تقريباً، من أجل إجراء مصالحة وطنية وإنهاء حالة الفرقة والانقسام، ومع بداية طريق المصالحة الوطنية برعاية مصرية منذ 2011، وحتى توقيعها مبدئياً في أكتوبر 2017، ودخولها المفترض حيز النفاذ في ديسمبر 2017، مازالت هناك شكوك في إتمام ذلك الطريق.ولأن بيئة الإعلام تتأثر بالمجال السياسي بشكل كبير، فلا يمكن توقع سيناريوهات مستقبلية للإعلام الفلسطيني، دون الرجوع للخلفية السياسية لحالة الصراع الدائرة بين الفصائل الفلسطينية الرئيسة، خصوصاً "فتح" و"حماس"، لكن الآمال ما زالت قائمة في أن يثمر نجاح المصالحة الوطنية المأمول، وينعكس في تقليل خطاب التحريض والكراهية بين طرفي الصراع، وأن يتحول إلى قناة للتفاهم والحوار بين أبناء الجماعة الوطنية الفلسطينية، وصولاً إلى وفاء الإعلام الوطني الفلسطيني بدوره في خدمة مواطنيه، والتعبير عن مشاكلهم ومواقفهم وإرادتهم، في طريق حل القضية الفلسطينية التي ما زالت تهم كل عربي.* كاتب مصري