إنه الاقتصاد يا ذكي
"ليس بالضرورة تحتج وتثور الشعوب حين ينتقل النظام الحاكم من وضع سيئ إلى وضع أسوأ، ففي أحايين كثيرة تثور الشعوب حين يشرع النظام في الإصلاح، وتلوح للناس بارقة أمل وفرصة للتغيير"، استشهد الكاتب فريد زكريا (واشنطن بوست 4 يناير) بملاحظة الكسي توكفيل السابقة، في تصويره للاحتجاجات الأخيرة في إيران، وهنا قد يبدو زكريا أكثر موضوعية من الكثيرين من الكتاب الغربيين الذين باركوا خطاب ترامب، ودعوته الشعب الإيراني إلى التخلص من نظامه، ولعله قدم بتأييده للمظاهرات هدية كبيرة للمحافظين في الجمهورية الإيرانية. المظاهرات التي اندلع أغلبها من القرى وليس من المدن الإيرانية، مثلما حدث في 2009، بعد فوز أحمدي نجاد، هي رد فعل لإحباط ويأس اقتصاديين، رغم أن الرئيس روحاني استطاع تخفيض التضخم لمعدلات كبيرة أثناء إدارته، أيضاً يظهر أن الاحتجاجات جاءت أساساً ضد رئيس كان قد وعد بمزيد من الانفتاح للسياسة الإيرانية، وبالحدود التي يمكنه المناورة فيها، واستطاع روحاني تحقيق بعض وعوده الإصلاحية، فالدولة أضحت أفضل حالاً في حريات التعبير من السابق، وهي بكل الأحوال، رغم أنها دولة ثيوقراطية (دينية) بكل ما تعني الكلمة، إلا أنها أفضل من الكثير من دول النظام العربي في موضوع حقوق المرأة والحريات العامة وحقوق الأقليات، وهذه ملاحظة عابرة للكثير من الشامتين المتوهمين هنا بأن مظاهرات إيران بارقة أمل لقادسية عربية جديدة.
يقول أحد المراقبين إن الرئيس روحاني زاد سرعة الإنترنت في إيران بدرجة كبيرة كما وعد بالسابق، وأيضاً نشر كل ميزانية الدولة دون أي تحفظات، ومعنى هذا أن الجمهور وفي القرى البعيدة أضحى يدري بكل تفاصيل الوضع المالي للدولة ومواضع الخلل والفساد وعدم العدالة في توزيع الثروة أحياناً، دون أن ننسى أن 50 مليون إيراني يملكون أجهزة هواتف ذكية، وأن نصف سكان الجمهورية أعمارهم تقل عن الثلاثين سنة، ومع أن إدارة الرئيس روحاني حققت إنجازاً تاريخياً بالاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، وأمكن تحقيق رفع جزئي للعقوبات، لكن الواقع أن كثيراً من العقوبات بقيت على حالها، وزاد مرارة الأمر تهديدات ترامب بإلغاء الاتفاق برمته، لتزيد جرعة الإحباط على الوضع الاقتصادي السيئ.وكان من المفترض أن يتمهل العديد منا هنا في تصوير أحلامهم وأوهامهم عن التغيير الحتمي للنظام في إيران، وكأن أعلام العلمانية الليبرالية ترفرف خفاقة بأيدي المحتجين، وكأن ربيعاً إيرانياً يلوح في الأفق، فالنظام هناك تضرب جذوره في أعماق الدولة، والتغيير لن يأتي بتلك الصورة، وإنما قد يأتي بالتدريج وبإصلاحات ممكنة من داخل النظام ذاته، وإذا كان هناك ما يمكن أن نتعلمه من درس الاحتجاجات الإيرانية اليوم فهو تأكيد مقولة "إنه الاقتصاد يا غبي" ودولنا تواجه اليوم تحديات اقتصادية لا تقل خطورة عن التي في الجمهورية الإيرانية، فلنخفف بعض غطرستنا وشماتتنا لما يحدث في إيران.