تماماً مثل أي دلو
رحاب إبراهيم كاتبة مصرية كنت قد كتبت عن مجموعتها القصصية المسماة "حيل الحياة"، وكانت بالفعل مجموعة متميزة، لا تشبه كتابة أي أحد قبلها. سعدت واستمتعت بقراءة قصص عذبة سلسة تصيب القارئ بدهشة من كتابة طازجة لذيذة فيها روح طفولية لم يعتدها القارئ، لذا كنت منتظرة إنتاجها القادم، وعندما حصلت على مجموعتها القصصية الجديدة المعنونة (تماما مثل أي دلو)، باشرت بقراءتها على التو. كنت أبحث عن تلك الطفولة المليئة بالأسئلة التي ترى الحياة من زاوية لا يراها إلا الأطفال، ويلتقطون بفطنة وبراءة ما لا يراه غيرهم، لكني عندما بدأت بقراءة المجموعة اكتشفت أن رحاب انتقلت إلى مرحلة الكبار، مع امتلاكها تلك القدرة على الحكي ببساطة متناهية وبعفوية، كأن كتابتها حوار حميم ما بين صديقتين، ومصارحة سرية غير مقصود إعلانها ونشرها.وهذا مقتطف من قصة "أحذية وطحالب وأسماك ذهبية" تحكي قصة صياد، لكنها في الواقع ترجمة ومحاكاة لحالة كاتبة القصة وروحها، التي تشبه الصياد المنتظر والملتقط لقصصه: "أنا لا أشبه أياً من هؤلاء. أنا صياد فقير، فقير وعشوائي، ولا أملك أسلحة على الإطلاق، فقط أرمي شبكة كبيرة كثيرة الثقوب، أرميها كل صباح من نافذة الباص، أو على الرصيف، أو بجوار المكتب، أرميها بهمّة، وأراقب ما تأتي به".
قصص رحاب ممكن أخذها لاحتمالات أبعد مما هو مكتوب في القصة، لأنها تحمل رموزا أبعد وأعمق، ودائما هناك رؤية لحدث خيالي يأتي مثل النسمة، محملا بدهشة رقيقة ثاقبة، مثال على ذلك قصة "القشة والغريب": "قطار مكدَّس في قرية صغيرة وبليدة من أجل إصلاح عطل لم يتحدد بعد. وسط الزحام، يهمس في أذنك صوت: اتبعني. تهيئ نفسك لسرّ، سرّ يوازي الانعتاق من هذا الزحام المعطل. تمشي وراءه، متجاوزا اهتزازات العجلات المفاجئة، حضور البشر اللزج الكثيف، والفواصل المرعبة بين عربة وأخرى. فجأة يختفي الصوت. يقفز من باب العربة الأخيرة، ويلوح ساخرا. تطل من النافذة، فترى قشة ذهبية تتدلى من السماء. تعلم أنها غير مثبتة بأي شيء، لكنك مازلت تحلم، تتمنى لو أنها مثبتة بنجمة، وأنها ستتحمَّل صعودك، واحدة، واحدة، برفق حتى تصل".رحاب في معظم نصوصها تجدها قادرة على إيجاد دهشة الأطفال ونظرتهم وتعبيرهم الطفولي تجاه الأحداث، بقليل من القص وكثير من التخيل، مثال على ذلك قصة "آخر العنقود وأوله"، تختلط الأحلام مع الواقع وخيالات الكاتب لحظات الكتابة وتجسد الشخصيات. يتحوَّل القص مثل غزل البنات، حيث يأتي محملا بخفة تذوب بعذوبة بمجرَّد قراءتها، أي أنها السهل الممتنع، الذي ينقل ويعكس حكايا الواقع الاجتماعي بخفة تزيح عنها ثقل الواقع، ليتحوَّل كنوع من الأحلام تطفو فوق ما حولها، كخيالات غير متحققة من وجودها الحقيقي. فبطلة القصة ترافق مجموعة من شخصياتها في مراحل عمرية مختلفة، تتفق معهن، وأحيانا تختلف، تتصفحهن دون تدخل منها، وكأنهن لا علاقة لها بهن، مع أنهن لسن إلا هي في انشقاقاتها المتعددة: "جميعهن يجلسن متجاورات، يثرثرن بهدوء، يتبادلن النكات والنميمة، والسباب أحيانا. تبدو كل واحدة منهن كأنها لا تعرف الأخرى أبداً، وأحيانا صديقتها منذ الأزل، لا أتدخل لفض اشتباكات. أحيانا أجلس بهدوء بينهن، مرتدية وجه إحداهن. أترقب في قلق وصول المرأة الجديدة، متظاهرة بعدم معرفتهن جميعا".ربما قصة "أمور نسائية" كانت مبتعدة عن الطفو الحلمي بوضوح حكاية البطلة منذ طفولتها، حتى مراحلها العمرية التي تلتها، وإن تميَّزت بخفة دم مصرية، وهي تقص حكايتها من بداية تشكل وعيها بذاتها، وما تلاه من تغيرات وفق هذا الوعي. وهذا مقتطف من طفولتها: "لم يكن أبي يهتم بالشكل مطلقا، مادام الشيء يؤدي وظيفته بكفاءة، وأنا لم أهتم للأمر، إلا بعد أن وصلت للمرحلة الثانوية، وبدأ الغمز واللمز. النظارة التي تم لصقها من المنتصف بصمغ أخضر يترك أثره على أنفي أحيانا، الحذاء الذي تم تغيير نعله بلون مختلف، وساعة اليد الكبيرة، والتي كانت تخص جدتي، كلها كانت تؤدي وظيفتها بكفاءة لم تشفع لها ولا لي في الإفلات من السخرية".تتميَّز معظم قصص هذه المجموعة بهذا الطفو الخفيف فوق واقعها، فمرآتها السحرية لا ترى الواقع كما هو، بل تحوله إلى حلم يتأرجح باحتمالات الخيال.