«السماء تصرخ»!
أعرف المخرج التلفزيوني والسينمائي التونسي شوقي الماجري لكنها المرة الأولى التي أشاهد فيها عملاً للمخرج التونسي قيس الماجري، الذي يحمل الجنسية الكندية بالإضافة إلى جنسيته التونسية، ولا أدري إن كانت ثمة صلة قرابة بينهما. لكن أزعم أن بينهما صلة موهبة، في ما يتعلق باستنطاق الصورة، وامتلاك اللغة الجمالية التي تتيح لهما تقديم تجربة فنية رائعة، وهو ما تجلى سابقاً، في أعمال شوقي الماجري: «أبناء الرشيد، وأسمهان، والاجتياح، وهدوء نسبي، ومملكة النحل، وأخوة التراب». ويتكرر، بقوة، في فيلم «السماء تصرخ» للمخرج قيس الماجري، الذي شهدت مسابقة «المهر القصير» بالدورة الرابعة عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، عرضه العالمي الأول.«السماء تصرخ» (15 دقيقة / 2017)، الذي كتبه قيس الماجري مع جيسيكا سوريندورف، ينتمي إلى ما يمكن تسميته «السينما الكافكية»، التي لا تدري خلالها إن كنت ترى أحداثاً كابوسية، من وحي خيال جامح، أم أحداثاً حقيقية تجاوز فيها الواقع حد الخيال. يبدأ الفيلم بالمرأة الحامل «ليليا» (سهير بنت عمارة) وزوجها «سامي» (نجيب بلقاضي)، في سيارة ابتلعها الأفق الرحب، قبل أن يبتلعهما واقع مخيف، على طريق بعيد عن المدينة، إذ نرى الزوجة، وهي تعاني آلام المخاض وحيدة، ومن خلال المونتاج (مالك شطا) نكتشف أنها هربت مذعورة من خطر داهم فوجئت به هي وزوجها، وهما في السيارة، بينما يطالبها الزوج بالفرار، واعداً إياها بمراوغة المهاجمين. وفي رحلة هروبها تلتقي جامعة حطب (الممثلة التونسية المعروفة فاطمة بنت سعيدان) تبدو وكأنها مُلمة بأبعاد المأساة المروعة، إذ تخبرها أن هذه المنطقة «منحوسة»، استولت عليها جماعة من معتادي الإجرام، وسارقي ونابشي القبور للتنقيب عن الكنوز، وفيهم الأخ الذي يقتل أخيه، كما يقتلون الأرض، بدلاً من أن يعمروها، ثم يوظفون ضحاياهم لمساعدتهم في حفر القبور، وهو ما يفعله الزوج مرغماً، بينما توشك الزوجة على الولادة، وتعجز عن طلب النجدة، بسبب عدم وصول شبكة الاتصالات إلى المنطقة النائية.
مشاهد كابوسية صادمة أسهم التصوير والإضاءة (إقبال عرفة)، والموسيقى (هيثم محبولي)، في تكثيفها بشكل رائع نجح في تجسيد معنى الفزع والرعب، كما جاء أداء الزوجة ليُكمل الصورة المخيفة، فضلاً عن جامعة الحطب، التي غلب على شخصيتها الغموض، بعدما تنبأت للزوجة بأنها ستلد طفلة، ومع «الفلاش باك» تتضح الصورة أكثر، وينجلي الغموض قليلاً، ونرى الزوجة مع زوجها بجانب السيارة، التي توقفت على الطريق، وهما مقيدين بالحبال، وفي مشهد لاحق يأمر زعيم المجرمين الزوج ببقر بطن امرأته، لكنه يأبى، وتنجح الزوجة في الفرار من الكهف، الذي اعتقلت فيه مع مئات المحتجزين، وتقف خارجه متأملة المشهد «الكابوسي»!غموض مثير، وإثارة من دون حدود، امتلك المخرج قيس الماجري القدرة، والموهبة، والحرفية، ما جعله ينجح في إيصالها إلى المتابع، وإرباكه، وإن بدت الدلالات غامضة، والرسالة معقدة، بعدما زادت جرعة الغموض، وتناثرت الإيحاءات بشكل جعلها مستعصية على الفهم، والإدراك حتى اختلطت على المتابع معرفة ما إذا كان بصدد فيلم رعب أو رؤية خيالية تأملية أو أحداث مستقاة من الواقع مُضافاً إليها بعض الخيال أو الإسقاط على الواقع!«السماء تصرخ» تجربة سينمائية مُدهشة مزج المخرج من خلالها بين الرؤية الخيالية الصادمة، وشذرات من الواقع الدموي القاسي لعالم مضطرب يسوده العنف، وتسيطر عليه الخرافات والخزعبلات والنهم لاكتناز المال، وهي المعادلة التي نجح المخرج في تجسيدها، وتكثيفها، بعد نجاحه في تقديم نفسه سابقاً كمنتج مشارك في فيلم «ذهبوا بلا عودة»، الذي فاز بجائزة «الأفضل في المهرجان» في «مهرجان مينياپوليس»، وعُرض في مركز «لينكولن» في إطار «هيومان رايتس ووتش» السينمائي، كذلك عُرض فيلمه DER UNTEMENSCH في مهرجاني «تورونتو» و«كان»، وإن لم ينجح فيلمه الأحدث «السماء تصرخ» في انتزاع جائزة من جوائز مهرجان دبي الرابع عشر، بعدما رأت لجنة تحكيم مسابقة «المهر القصير»، برئاسة المخرج والكاتب الفرنسي جيلس مارشان، منحها لفيلمي «زيارة الرئيس» (جائزة لجنة التحكيم) و«رجل يغرق» (أفضل فيلم).