عبرٌ من إيران زمن الشاه
بينما عمت المظاهرات المؤيدة للنظام المدن الإيرانية قبل أيام قليلة، أعلن رئيس الحرس الثوري الإيراني "نهاية العصيان"، أي التظاهرات الأخيرة في إيران، ولكن هل فعلاً انتهى أكبر خطر تعرّض له هذا النظام منذ تسلّم الثورة الإسلامية الإيرانية مقاليد السلطة في البلاد؟ إن مجرّد استخدام كلمة "عصيان" تعني أن الأمور تجاوزت احتجاجات الحركة الخضراء التي اندلعت بعد انتخابات 2009 الرئاسية. ليس ذلك فحسب بل تذكّرنا المطالب التي رُفعت في المظاهرات الإيرانية الأخيرة بما سُمّي بالربيع العربي، فهل لحقت إيران متأخرةً بهذه الموجة؟ هل شبابها الذين يشكّلون الغالبية الساحقة في المجتمع الإيراني حانقون إلى هذه الدرجة؟ وهل هم محبطون ومثقلون بالعقوبات الغربية وتبعات انخفاض أسعار النفط؟ وإن كان الأمر كذلك فهل ستختفي هذه المظاهرات الى الأبد، أم سيعود المتظاهرون الى تجميع قواهم ولمّ شملهم، ليس في الأسبوع الحالي ربما، بل في الأشهر المقبلة أو السنة القادمة مثلاً؟تكفي العودة الى التاريخ لكي نفهم ما يحصل في إيران اليوم، ونستخرج العبر والدورس القيّمة، فأي شرحٍ لاحتجاجات اليوم لن يختلف عن ظروف الماضي، وقد يعتبر البعض هذه الاحتجاجات أول تهديدٍ جدّي تواجهه الثورة الإسلامية الإيرانية بسبب طابعها السياسي وانتشارها الجغرافي مما يجعلها مختلفة عن المظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على نقص الطعام في التسعينيات.
رؤيتي للأمور هي من منظارٍ مختلف، لقد أمضيت فصلاً من الصيف في إيران في السبعينيات، أي حين كان الشاه لا يزال في السلطة، وكان الدعم الأميركي للنظام واضحاً وضوح الشمس، وما كانت أي انتفاضة إسلامية تلوح في الأفق. كانت النساء يلبسنَ الكعب العالي ويضعن أحمر الشفاه وينظرنَ الى من يرتدين الحجاب في المدن المتديّنة أو الريف كأنّهن متخلفات، وكانت إيران، المدعومة من الغرب وتحديداً من بريطانيا وأميركا، على الطريق لتصبح حليفة الغرب التي يمكن الاتكال عليها في المنطقة. ولكن سرعان ما اختفت تلك الصورة، فبين 1978 و1979 وحين كنت أشاهد على التلفزيون الاحتجاجات الكثيفة في جنوب طهران وعودة الخميني الظافرة تذكرت تفاصيل ذاك الصيف الذي أمضيته في إيران مع عمتي ماري إسحق، كانت إسحق مديرةً لمدرسةٍ مجانية للبنات في أصفهان، كانت تريد الذهاب إلى الصين للانضمام إلى مؤسسةٍ خيرية هناك، ولكنّ هذه الأخيرة أقفلت أبوابها في الصين، فعُيّنت في إيران بدلاً من ذلك، وسرعان ما أمّم الشاه المدارس وأمر بألا تُدار إلا من موظفي الحكومة الإيرانية، ومُنحت إسحق آنذاك الجنسية الإيرانية كي تكمل مهامها التربوية، وحين زرتها كانت متقاعدةً وتسكن في شقة صغيرة مجاورة لمدرستها، وتعتبر نفسها إيرانيةً أكثر مما كانت بريطانية، حتى أنّها تبنّت فتاةً إيرانية.أذكر أننا كنا في عام 1979، وكانت عمتي تشعر باليأس من الطبقة الوسطى المثقفة في البلاد، فكانت تراهم يحتقرون الأقل ثقافةً منهم، ويرفضون العمل في السياسة تاركين المجال مفتوحاً أمام رجال الدين والفاسدين، وكانت مدركةً تماماً سلطة الملالي ونفوذهم الواسع، فرجال الدين هؤلاء هم من كانوا يمسكون بالحكم ويتحكمون في حياة المواطنين، كانت تؤكد لي ذلك. أخذتني عمتي الى الريف فرأيت بأم العين الهوة الشاسعة التي كانت تفصل الفقراء عن الأغنياء، والمثقفين عن غير المثقفين، وشمال طهران المُقلّد للغرب عن جنوبها المعدَم الذي شكّل قاعدة خصبةً لثورة الخميني، وما كان أحد يفكر في تلك الأيام أن "التمدُّن" الذي كنا نشهده في بعض شوارع طهران كان إلى زوال. لعلّ أهم درس تعلّمته من سقوط الشاه هو أنه لا يمكن فرض أو تسريع "التمدّن" في مجتمع ما من دون التعمّق في دراسة حاجات هذا المجتمع نفسه أولاً، ومن دون تعميم فوائد أي تحرّكٍ على المجتمع بأسره، بحيث لا تكون حكراً على طبقةٍ نخبوية فحسب. يبقى أن نعرف أن الثورة الإسلامية قد نجحت حيث فشل الشاه في رأب الصدع بين مختلف طبقات المجتمع الإيراني، وهنا لُبّ الاحتجاجات الأخيرة، فهل تعكس الاحتجاجات رغبةً الشباب الإيرانيين الجامحة بالتغيير؟ وهل هي تعبير عن حنقٍ عارمٍ لارتفاع الأسعار وصرخةٌ مدوّية ضدّ تضييق الخناق على المجتمع الإيراني؟ أي توتر في إيران سينعكس طبعاً على الصفقة النووية، وعلى استقرار كلّ من اليمن وسورية ولبنان وعلى العلاقات مع المملكة العربية السعودية والعراق، وكل ما نستطيع أن نأمله هو أن تفتح هذه التظاهرات باباً للنقاش بدلاً من التناحر حول أي نظام إيراني ينبغي اعتماده، كان الإيرانيون يفاخرون دوماً بأنهم بعيدو النظر، وأتمنى أن يكونوا على حق وأن يستفيد الغرب من عبر الماضي. * ماري ديجيفسكي * «الإندبندت»