الموت المجانيّ، ورائحة الجثث، والتعذيب الجسدي، والجوع المستديم، والزيف المجتمعي، والمتجارة بالدين، وغيرها، موضوعات جعل منها الكاتب أزهر جرجيس مواد أوليّة لحلواه التي يعرضها على طبق من السخرية السوداء في «صانع الحلوى»، كما هي عادته في كتابة القصص.

ربما ستصطدم برأس يتدحرج بين طيّات الكتاب، أو تعوقك غيمة وطاويط من متابعة القراءة، أو يهتف بك جلّادٌ يحمل سيجارةً يسلّيه إطفاؤها في أجساد الضحايا، لكنّ تأكد بأنّ كل ما ستراه، ليس فيلماً هوليووديّاً لسيناريست ممسوس، ولا عرضاً مسرحيّاً لفرقة جوّالة من مجرّة أخرى، بل هو الواقع الذي عشتَ بعضه، وعاش غيرك بعضه الآخر، ولو تبادلتم الحكايات لاكتملت الصورة.

Ad

أبرز ما يميّز مجموعة صانع الحلوى هي الفانتازيا المكتوبة بلغة جميلة ونكهة خاصة، تمنح الكاتب حضوره الأدبيّ والسرديّ المميز وسط المشهد الراهن. 

لا يدّعي جرجيس امتلاكه الأجوبة، قدر ما يحاول، بمبضع السخريّة، فتح الدمامل وكشفها للهواء والضمير الإنساني الذي غاب طويلاً عن مأساة شعبه وآلامه، رغم إجادته صناعة الحلوى.

 

من الكتاب

في الطريق إلى المنزل، اعترضني غراب. وقف في الهواء يصفّق بجناحَيْه أمام وجهي. سألتُه عمّا يريد، فقال بأنّ هنالك بشارة في انتظاري. بشارة من غراب؟! يا ويلي! على كل حال شكرتُه، ومضيتُ.

 كنتُ أحثّ الخطى، كي أصل، وعلامات الاستفهام تتناسل في رأسي. ما الذي ينتظرني في المنزل؟ لقد فقدتُ منذ عامَين عملي كمُحرّر ثقافي في الصحيفة، لسبب تافه، ولا تزال المصائب تتناسل. قالتْ مديرة التحرير يومذاك بأنّها تشعر بالاختناق وقلّة الأوكسجين في الهواء، بسبب أنفي الكبير، فأقالتْني من وظيفتي بعدما عجزتْ عن إقناعي بإجراء عملية تصغير له.

في الواقع، لم أكن مرتاحاً لحجم أنفي، لكنّني أخاف من صالة العمليات. رأيتُها مرّة واحدة في حياتي، ولا تزال رائحتها عالقة بأنفي مثل قرادة في خاصرة ثور. كنتُ حينذاك في الرابعة من عمري، وكان لقلبي الصغير نافذة يطلّ بها الأُذينان على بعضهما، فأغلقها طبيب جرّاح، يُدعى شوقي العصبي. لا أدري إن كان هذا اسمه الحقيقي أم كناية عن عصبيّته المفرطة مع المرضى. المهمّ أنّي لا أزال أتذكّر حاجبَيْه الكثيفَيْن وهو يراقب إغفاءتي، كي يضع المشرط في صدري.

أزهر جرجيس

كاتب عراقي من مواليد 1973، يقيم في النرويج. صدر له: «فوق بلاد السواد»، مجموعة قصصية ساخرة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015)، لاقت المجموعة نجاحاً لافتاً، فضلاً عن قصص ومقالات ساخرة في صحف ودوريات عربية.

اعتبر الناقد والأكاديمي

د. حسن سرحان أن «فوق بلاد السواد» تضمن فرادتها وسط المشهد الأدبي المعاصر، موضحاً أن سخرية المؤلف «لا تستثني ميداناً يمكن أن تصل إليه، فهي تطاول السياسة وتقترب من الدين وتلامس التقاليد من غير أن تدّعي الفلسفة ولا أن تتصنّع الحكمة، ذلك أن أزهر جرجيس لا يريد لنصه، أو هكذا هو ظني، أن يعيد إنتاج شوبنهاور ولا أن يكرر نسخ برغسون. كتابات جرجيس بسيطة، وواضحة، ليست متعددة الأبعاد ولعلّ ما سيضمن لها فرادتها في وسط ثقافي يتغذى على التراجيديا وسياق تأريخي يحسب الموت فعلاً جاداً ويسخر من الضحك بحجة كونه لا يناسب المرحلة».